من المقرّر أن يُناقش موضوع النقل يوم الأربعاء المقبل في إطار جدول أعمال القمّة الدولية للتغيّر المناخي التي انطلقت الأسبوع الماضي في مدينة غلاسكو. حتى الآن، غلب «النفاق» على معظم الكلمات والمداخلات التي تحدّثت عن الاستدامة والحفاظ على البيئة والمناخ، إذ أغفلت أن التدمير اللاحق بالأرض ليس سوى نتيجة تلقائية للنظام الرأسمالي المتوحّش. فهناك الكثير من التقارير ذات الصدقية التي تُفيد بأن أكبر 100 شركة حول العالم مسؤولة عن %71 من انبعاثات الغازات الدفيئة الصناعية في العالم.
لبنان ليس استثناء في تعامله مع الاستدامة بالسطور الإنشائية التي ترد في التقارير الأممية والبيانات الوزارية للحكومات. فهو كان حاضراً في هذه القمّة. وعلى غرار ما فعله غالب القادة المشاركون، وصل رئيس الحكومة نجيب ميقاتي بواسطة طائرة خاصة ليصرّح بالآتي: «يؤمن لبنان بمكافحة الأزمة المناخية من خلال تبنّي مسار يحقّق التنمية المستدامة». هل يعلم ميقاتي أن الطائرات الخاصة هي من بين أكثر وسائل النقل تلويثاً؟
أهداف التنقّل المستدام
ينطوي مفهوم الاستدامة في قطاع النقل على ثلاثة أهداف: اقتصادية، بيئية واجتماعية. والاستدامة تحتّم تأمين احتياجات الحاضر من دون المساس بقدرات الأجيال القادمة، أي أن النقل المستدام يتعلّق بتوفير الخدمات والبنية التحتية لتنقل الأشخاص والسلع - عبر دفع التنمية الاقتصادية والاجتماعية لصالح الأجيال الحالية والمقبلة - بطريقة آمنة وكلفة معقولة إضافة إلى الفعاليّة والمرونة في الوصول إليها. وكلّ ذلك يكون بالتلاؤم مع تقليل الانبعاثات والتأثيرات البيئيّة الأخرى. لكن رغم التسويق لأغلب مشاريع النقل في العالم (لا سيما الدول الغنية) بوصفها مشاريع مستدامة، إلا أنه يندر أن يكون ضمنها وزناً كافياً للأهداف الثلاثة. ففي العقود الماضية، كانت المقاربة الكلاسيكية لأنظمة النقل (غالباً في المدن والبلدان الغنية) تقوم على تخطيط محصور بفترات قصيرة ومتوسطة مع تقييم محدود للأثر السلبي الناتج من المشاريع، من أجل تأمين وتسهيل سير المركبات على الطرقات.
كان الأمر يتطلب تركيزاً على البنى التحتية لإنشاء الطرق وملحقاتها (جسور، أنفاق، مواقف…). هكذا ازداد عدد السيارات بالتزامن مع النموّ الاقتصادي وارتفاع معدّلات الدخل الفردي. لكن هل كان الأمر مستداماً؟ بعد سنوات لاحظت الدول أنها دخلت في دوامة مكلفة وأصبحت أسيرة السيارة والاستثمارات في البنى التحتية اللازمة لها من طرقات ومواقف وخدمات، بلا مردود كافٍ. بل على العكس ترافق ذلك مع تمدّد عمراني مكلف، وتلوث بيئي، وصدامات مرورية، والأهم لا عدالة اجتماعية.
إزاء ذلك، قررت العديد من الدول، اعتباراً من عام 1970، وتدريجياً حتى عام 2000، التحوّل نحو مقاربة جديدة تولي الاهتمام الأول للناس وليس للسير، فضلاً عن دمج عدة وسائل نقل بدل التركيز على السيارة وحدها، والتركيز على العدالة الاجتماعية لتأمين الوصول السهل للجميع إلى الأعمال والخدمات الأساسية. وبالتالي تحتّم على هذه الدول التركيز على وسائل النقل المشترك والسلس (المشي والدراجة الهوائية). هكذا وُلد مفهوم النقل المستدام الذي يحتّم على أي نظام نقل أن يكون عادلاً، نظيفاً، آمناً وفعّالاً.
الغرق في اللا عدالة
عملياً، لا تنطبق مواصفات النقل المستدام على لبنان. رغم ذلك، من اللافت تلك الثقة التي يتحدّث بها ميقاتي عن الاستدامة. كلامه يحفّز استعادة بعض الإحصاءات عن نظام النقل في لبنان. هو نظام يعتمد على السيارة بشكل كبير (70% من التنقلات الممكنة، نصف التنقلات اليومية، وثلثي التنقلات الأخرى) مع معدل 307 سيارة لكل ألف مقيم ونسبة استعمال يومي تتخطى 80%. ومقابل هذا الاعتماد على السيارة، هناك غياب شبه تام لوسائل النقل المشترك المنتظم واقتصاره على نظام شعبي غير منظم لا يؤمن سوى ثلث التنقلات، لا سيما في المدن، بل يغيب عن مقيم من أصل ثلاثة على مجمل الأراضي اللبنانية. أما في ما خص النقل السلس فيقتصر في لبنان، على المشي على الأقدام مع غياب للدراجة الهوائية رغم العوامل المساعدة لاستعمالها كوسيلة أساسية.
Comments