لنواجه الحقيقة المرّة: لم يعد ممكناً تفادي أزمة النقل أو إغفالها كما جرت العادة. شحّ المحروقات وطوابير الانتظار للحصول عليها، ليسا سوى رأس جبل الجليد الذي يخفي تحته أزمة متراكمة منذ نهاية الحرب الأهلية (وإن بدأت قبل اندلاعها بعقد تقريباً). حتى الآن يتم التعاطي مع عوارض الأزمة من خلال آليات استيراد المحروقات وتمويلها لتعزيز أصل المشكلة الكامن في الاعتماد على السيارة كوسيلة أساسية للتنقل.
رغم فداحة الأزمة وعمقها، وكما كان متوقعاً، لم ترقَ قوى السلطة الحاكمة والمتحكمة في قطاع النقل على مدى سنين، لتكون على مستوى المسؤولية، بل قامت بتعميق الأزمة عن دراية وخبث حيناً وعن جهل أحياناً، كما اعتادت القيام به على مدى عقود. اليوم أيضاً، ورغم أنه لم يعد ينفع إنكار الأزمة أو تجميلها، إلا أن هذه القوى لم «تخذلنا»، وقامت مجدداً بما تجيده، أي الفشل، مع فرق جوهري في النتائج، إذ أنّ هذا الفشل أصبح قاتلاً ولا يجب السكوت عنه أو مساكنته.
أبرز ردود فعل قوى السلطة على أزمة النقل هو تصريحات وزيرَي النقل والطاقة؛ الأول استجدى المعونات ساعياً إلى تحويل أموال قروض كانت مخصصة لتزفيت الطرقات، فيما الثاني قد وجّه نصيحة ذهبية للفقراء باستخدام «شي تاني» في حال لم يجدوا للسيارة سبيلاً عند رفع الدعم. أما الحلول المقترحة، فلم تكن أفضل بكثير، بل تنوّعت بين استجلاب النفط من دول أخرى، رفع الدعم جزئياً وتدريجاً أو الصمت المطبق.
استيراد المحروقات
منذ بداية الأزمة تكرّر الحديث عن فكرة استجلاب المحروقات من دول صديقة كالجزائر، الكويت، العراق، وإيران، إما عبر الدولة مباشرة أو عبر أحزاب وشخصيات تربطها علاقات بهذه الدول. إذا هملنا الجانب السياسي لهذا الموضوع، ومع افتراض أنه سيتم شراء النفط بالليرة اللبنانية، عبر الدفع المؤجّل أو بالمبادلة، فإن حلولاً كهذه تبقى ناقصة، وتوشك أن تكون غير نافعة وربما مؤذية على المديين المتوسط والبعيد. هو خيار آنيّ ومؤقت لأن استجلاب المحروقات اليوم وإشباع السوق لا بد أن يزيدا العرض ويقلّصا الطوابير من دون أن يقدّما إجابة عن السؤال الأساسي: ماذا بعد؟
هنا نعود إلى أصل أزمة النقل. تتلخّص هذه الأزمة في الاعتماد على السيارة، وفي غياب البدائل. ويأتي تفاقم الأزمة في وقت أصبح فيه استعمال السيارة مكلفاً جداً ويتجه ليكون محصوراً بشرائح معيّنة، أي أن استجلاب المحروقات بالطريقة المطروحة يهدف إلى شراء الوقت خارج إطار أي خطّة شاملة للنقل. فمالكو السيارات (88% من الأسر في لبنان) ومستخدموها (70% من التنقلات الممكنة) سيصبح لديهم بنزين، إنما نعلم جيداً أن أزمة التنقل غير محصورة بالاعتماد على السيارة، فماذا عن صيانة المركبات مثلاً؟ على أي سعر سيتم بيع المحروقات؟ هل سيتم ذلك ضمن خطة دعم أو يترافق مع رفع الدعم؟ ماذا سنفعل بعد فترة في حال توقف إرفادنا بالمحروقات لأي سبب؟ ماذا عمّن لا يملك سيارة أو لا يستطيع استعمالها؟
إن فكرة استجلاب البنزين تدعو الناس إلى الاستمرار في استعمال سياراتهم عبر إيهامهم بأن الأزمة مرتبطة بشحّ استيراد المحروقات، وهو أمر ليس صحيحاً. إن تأمين مستلزمات السيارة من بنى تحتية (طرقات ومواقف)، خدمات (كراجات، تجارة…)، ومستلزمات استعمالها (محروقات، قطع غيار،...) هو محفّز أساسي لاستعمالها. الاعتماد على السيارة هو الخطأ الذي وقع فيه لبنان إلى جانب غالبية الدول المتوسطة الدخل والغنية أيضاً في الخمسينيات. إلا أن هذه الدول تداركت الخطأ في السبعينيات وما زال يلاحقها من دون أن تنجح في الهروب منه لغاية اليوم، بينما لبنان غرق في الخطأ. هنا الحديث عن دول في أوروبا الغربية وأميركا واليابان ذات أنظمة النقل المشترك والسلس الرائدة، فما بالنا عما يحصل في لبنان في نظام نقل قوامه السيارة فقط.
باختصار، إن تأمين المحروقات أمر لا مفرّ منه، ويجب أن يتم عبر الدولة ومن دول صديقة طبعاً ومن دون المرور بعصابة كارتيل المحروقات، لكن استجلاب المحروقات من دون خطة ورؤية متكاملة تهدف إلى تقليل الحاجة إلى التنقل بواسطة السيارة، وتنويع وسائل النقل، ولا سيما المشترك والسلس منها، وإعادة النظر في ترتيب المجال اللبناني، لن يكون نافعاً، بل هو هروب إلى الأمام بانتظار تكرّر المشكلة التي ستعود أقوى وأعنف، وهذا وعلى افتراض أنه في ظل ارتفاع أسعار المحروقات المرتقب بعد رفع الدعم، لن تعود المشكلة وجود كميات كافية منها بل ستصبح كيف سيتدبر الناس أمورهم لتحمل كلفة شرائها؟
رفع الدعم جزئياً
الحلول الأخرى تأتي من أوركسترا مصرف لبنان وتوابعه من سياسيين ومصرفيين وكارتيل المحروقات وتتحدث عن رفع الدعم جزئياً وتدريجياً عن المحروقات وتسعيرها على سعر صرف يوازي 3900 ليرة مقابل الدولار، ما يجعل سعر الصفيحة يتجاوز 70 ألف ليرة، علماً بأنه يتوقع أن يزداد السعر انسجاماً مع ارتفاع الأسعار العالمية في ظل الانحسار الجزئي لأزمة كورونا وعودة الحياة تدريجاً. خطورة اقتراح كهذا، تكمن في تشجيع الناس على الاستمرار في استعمال سياراتهم وتصوير الأزمة على أنها أزمة محروقات لا أكثر. يضاف إلى ذلك استنزاف ما تبقّى من دولارات لدى مصرف لبنان من أجل الاستمرار في الدعم (ولو جزئياً) بالكميات نفسها، وبالتالي الاستمرار بتفويت فرصة الاستفادة من بعض هذه الأموال لإقامة مشاريع مستدامة ومجدية بكلفة أقل بكثير من تلك المخصّصة لدعم المحروقات، بدلاً من الاستمرار في سياسة الهدر نفسها المسماة دعماً. فبحسب تقرير صادر عن الأمم المتحدة في عام 2015، فإن الربع الأفقر من سكان لبنان لا يستفيد سوى بنسبة 6% من الدعم على المحروقات، فيما يحصل الربع الأغنى من السكان على 55% من هذا الدعم. إذاً، كيف هو الحال اليوم مع ارتفاع معدلات الفقر والبطالة والتضخّم؟
يُستكمل مقترح رفع الدعم باقتراح زيادة مادية على البطاقة التمويلية المقترحة التي تبدو ولادتها عسيرة جداً، بهدف «تعويض» الناس عن ارتفاع سعر المحروقات. هذا الأمر يثير تساؤلات عدة: لماذا التفريط بما بقي لدينا من أموال لاستكمال سياسة أثبتت فشلها فيما نستطيع استثمار هذه الأموال لإنشاء نظام نقل مشترك وسلس؟ لماذا مواصلة اعتبار كل الناس سواسية في الاستفادة من الدعم على المحروقات؟ ما هو الحل لمن لا يملكون أو لا يستخدمون سيارة؟ ألا يكفي غياب الدعم عن هذه الفئات على مدى 30 عاماً لمصلحة مستخدمي السيارات لكي يلاحقهم هذا الظلم في أحلك الظروف اليوم؟
أما في خصّ البطاقة التمويلية، فلماذا سنقوم بتحويل أموال قرض البنك الدولي لدعم سياسة النقل المعتمدة على السيارة، فيما لدينا قرض بقيمة 300 مليون دولار مقرّ منذ سنتين من الجهة نفسها لإقامة مشروع نقل مشترك؟ اللهم إلا إذا تم تحويل هذا القرض إلى قطاعات أخرى أو دمجه أو وقفه لمصلحة قرض البطاقة التمويلية كما يُتداول في الكواليس. نأمل ألا يُصرّ كثيراً وزير النقل على تحويل جزء من أموال هذا القرض لتعبيد الطرقات كما يتمنّى!
في غضون ذلك، هناك معطيات عن فتح اعتمادات لاستيراد المحروقات التي تكفي لشهرين فقط في انتظار إقرار البطاقة التمويلية، بما ينبئ مسبقاً أنه بعد شهرين سيبدأ الحديث عن رفع الدعم كلياً، أي سيصل سعر الصفيحة إلى 200 ألف ليرة. حينها نكون أيضاً هربنا إلى الأمام وأصبح وجود المحروقات كغيابها والحصول عليها محصوراً بفئة صغيرة فيما الأغلب سيبحثون عن «شي تاني» ولن يجدوه!
مع اشتداد الأزمة وتفويت الفرصة تلو الأخرى لتفادي الكارثة في قطاع النقل، تأتي الحلول المقترحة كدليل إضافي وجليّ على عجز مقترحيها وضعف نظرهم تجاه الأزمة. مقترحاتهم لا تنفع إلا لشراء الوقت ما يجعلنا مجدداً نتيقّن غياب الجرأة وانعدام الخيارات. الأخطر هو استمرارهم في هذا النهج توازياً مع تعمّق الأزمة، ما يعني أننا سندفع الثمن مجدداً، لما دفعنا ثمنه على مدى 30 عاماً من إهمال قطاع النقل.
Comments