كأنما لم يكفِها فشلها في قطاع النقل لعقود، أبت السلطة الحاكمة اليوم إلا أن تتفوق على نفسها وتثبت مجدداً أن قطاع النقل بشكل عام، والنقل المشترك بشكل خاص، لم يكونا ولن يكونا يوماً ضمن أولوياتها عن عمد أو عن جهل. فبعد سنين من المماطلة، يبدو أن مشروع الباص السريع كُتبت نهايته بعد تحويل القرض المخصص له من البنك الدولي، إلى البطاقة التمويلية التي تبدو ظرفية وانتخابية تزامناً مع رفع الدعم جزئياً عن المحروقات.
يُعرِّف «مجلس بحوث النقل» في الولايات المتحدة الأميركية، نظام «الباص السريع» بوصفه «وسيلة نقل سريعة يمكن أن تجمع بين جودة النقل بالسكك الحديدية ومرونة الحافلات عبر نظام متكامل من المرافق والخدمات والأشخاص الذين يعملون سوية لتأمين سرعة مرتفعة في التنقل».
أي أن هذا النظام، يُعتبر شبيهاً بالوسائل التي تعمل على سكك حديدية (قطار، مترو وترامواي)، إنما مع مرونة تشغيلية أكبر وغالباً بكلفة رأسمالية وتشغيلية أقلّ. وبالإضافة إلى ذلك، يكون هذا النظام قادراً على تجنّب أسباب التأخير التي عادةً تبطئ خدمات الحافلات العادية، مثل الوقوع في الزحمة واصطفاف الركاب للدفع على متن الحافلة (الدفع يتم غالباً قبل الصعود في الحافلات) بشرط أن تتأمن له الميزات الصحيحة. وقد تم إدخال نظام الباص السريع لأول مرة عام 1974 في مدينة كورتيبيا البرازيلية مدفوعاً بنقص التمويل والزيادة السكانية في المدينة التي تطلّبت نظام نقل مشترك بمركبات عالية السعة. بعد كورتيبيا، انتشر نظام الباص السريع في عدّة مدن في العالم أبرزها بوغوتا الكولومبية في التسعينيات وهي ما زالت تمثّل نموذجاً لهذا النظام حول العالم.
قبل عام 1990، كانت أنظمة الباص السريع تعمل في 18 مدينة فقط مقابل 173 مدينة اليوم حيث تنقل 34 مليون راكب يومياً. ففي المدن التي تعتمد على السيارات أو النقل المشترك الشعبي، كما في لبنان، يمتاز نظام الباص السريع بقدرته على اجتذاب المستخدمين بسهولة، شرط توسيع نطاق خدماته قدر الإمكان وعبر سياسات استباقية لتقليص الاعتماد على السيارة. وهذا النظام منتشر في العديد من الدول المتوسطة والفقيرة التي لجأت إليه بهدف مساعدة أو استبدال نظام النقل الشعبي غير المنتظم، أو بهدف خفض نسب استعمال السيارة. كما أنه يترافق مع خطة لتنظيم الأراضي التي يخدمها ويسهم بتحسين التنظيم الإداري والسياسي لقطاع النقل حيث وُجِد.
المشروع الوحيد
في عام 2003، بدأ الحديث عن الباص السريع في لبنان. أُعدّت دراسة مكتملة حوله تضمنت اقتراحاً بإنشاء مسارات خاصة لباصات النقل المشترك على الخطوط القديمة للسكك الحديدية. ورغم أن الدراسة أُعدّت في وقت كانت فيه الاستدانة أسهل وبكلفة أقل، إلا أنها لم تُنفّذ لأنها رُفضت سياسياً بذريعة رغبة السلطة الحاكمة في إقامة شبكة قطار. عملياً، لم يأت القطار، وخسرنا أيضاً مشروع الباصات التي كانت بمثابة نقلة نوعية لنظام النقل. وبعد نحو 10 سنوات، أي وفي عام 2014، استعيد الحديث عن الباص السريع في لبنان في سياق انتشار هذا النظام في دول شرق-أوسطية ولا سيما الأردن، مصر، تركيا ودول خليجية (السعودية مثلاً). وبحسب الملخّص التنفيذي للمشروع الذي أعدّه البنك الدولي وروّج له مجلس الإنماء والإعمار، فإن الهدف منه «إنشاء نظام جديد لباصات النقل السريع بين طبرجا وبيروت، وداخل بيروت، مع تأسيس خدمات الباصات المغذية لخط باصات النقل السريع الرئيسي ووضع الترتيبات المؤسّسية المناسبة لإدارة تشغيل وصيانة النظام الجديد لباصات النقل السريع». كذلك أشار الملخص إلى أن مسؤولية التنفيذ تقع على عاتق المجلس بينما يكون التشغيل خاضعاً لولاية الهيئة الوطنية للسكك الحديدية والنقل العام.
هذا المشروع الأخير، اعتمد على نظام حافلات عالية السعة عبر ثلاثة مسارات: أوتوستراد الشمال، طريق دائري حول بيروت، وطريق دائري داخلي فيها؛
الأول يربط طبرجا ببيروت بطول 24 كم مع حافلات على ممرات وسطية مع 28 محطة وجسور للمشاة، وسلالم... والثاني، أي الدائري الخارجي بطول 18 كم مع 21 محطة، بينما الثالث أي الداخلي بطول 16 كم و19 محطة بلا مسارات مخصّصة.
ويقترح المشروع أن يتم تأمين هاتين الشبكتين عبر خطة النقل المشترك على 20 خطاً لبيروت المقدمة من وزارة الأشغال العامة والنقل منذ 2013. كما يشير المشروع إلى وجوب توسيع الأوتوستراد عند الضرورة ويفترض أن تُراوح سرعة الحافلات بين 20 إلى 25 كلم/ساعة في بيروت و30 إلى 35 كلم/ساعة على باقي الخطوط.
وبالإضافة إلى هذه المسارات الثلاثة، يقترح المشروع إنشاء 9 خطوط حافلات لنقل المستخدمين من المناطق المجاورة إلى محطات الباص السريع بالإضافة إلى وجوب بناء مركز تحكم وصيانة و9 مواقف للسيارات بالقرب من المحطات الرئيسية.
في عام 2019، أُقر القانون الرقم 135 الرامي إلى قبول قرض بقيمة 295 مليون دولار من البنك الدولي لتمويل هذا المشروع الذي أثيرت حوله تساؤلات يمكن اختصارها بالآتي:
- تُعدّ كلفة المشروع مبالغاً فيها، ولا سيما لجهة الإصرار على إقامة مسارات ومحطات وسطية على أوتوستراد بيروت-طبرجا مع بنى تحتية فوقه أو تحته لعبور المشاة، فيما قد يكون من الأفضل والأرخص إقامته على الطريق البحري.
- الجدوى من المشروع من دون إجراءات مشدّدة للحدّ من استعمال السيارة خاصةً مع تزامن إقراره مع مشروع إقامة أوتوستراد العقيبة-الضبية كبديل من أوتوستراد بيروت-جبيل ما يشير إلى الرغبة (في حينه) بتعزيز دور السيارة ويهدّد جدياً أي مشروع نقل مشترك.
- لماذا جرى تفضيل هذا المشروع على غيره من المشاريع كقطار بيروت-طرابلس، وعن دمجه مع مشروع باصات بيروت (مشروع عام 2013) ولماذا لم يتم تفضيل أو تنفيذ أيّ من المشاريع الأخرى كما حصل مع الباص السريع؟
- أما بخصوص النقل المشترك الشعبي الموجود حالياً فقد جرى الحديث بداية عن رغبة بدمجه مع الباص السريع، لكن منذ أسابيع (قبل اقتراح تطيير المشروع لمصلحة البطاقة التمويلية) انحرف الأمر نحو استبدال الباص السريع بخطة دعم لسائقي ومركبات النقل الشعبي العاملة ضمن نطاق المشروع. لماذا يجري الآن درس اقتراح كهذا موجود منذ زمن؟ ما هي دراسات الجدوى لهذا الاقتراح خصوصاً أننا نتحدث عن قرض بـ 300 مليون دولار؟ ماذا عن النقل المشترك على باقي الأراضي اللبنانية؟ كيف سيتم إحصاء مركبات النقل المشترك في هذا النطاق؟ لماذا لم يتم إعلام الرأي العام بهذا الاستبدال؟ هل سيستمر البحث عن تطوير النقل المشترك الشعبي بعد تطيير مشروع الباص السريع أم سيستمر إهماله؟
- يبقى التساؤل الأبرز حول التأخر في تنفيذ هذا المشروع. إذ يشير مجلس الإنماء والإعمار إلى أن التنفيذ قد يستغرق 3 سنوات أقله، وهذا أمر مستغرب لأن دراسة المشروع بدأت منذ خمس سنوات تقريباً ولغاية اليوم لم يبدأ العمل به، ما يعني أن التنفيذ سيتطلب 3 سنوات إذا بدأ اليوم!
فرصة وطارت
بالتوازي مع تطيير الباص السريع يأتي قرار السلطة الحاكمة برفع الدعم تدريجاً عن المحروقات. هذا الدعم لم يكن يوماً مفيداً لأنه غير عادل بل هو ركيزة أساسية لتعزيز سياسة السيارة التي أهلكت نظام النقل في لبنان وأثقلته بأكلاف مهولة لاستيراد السيارات والصيانة والمحروقات على مدى عقود. لكن أن يأتي رفع الدعم، خلال أعنف أزمة تضرب لبنان، ومن دون أي حديث عن بديل، ولا أي خطوة واحدة ولو بسيطة لتعزيز النقل المشترك الحالي أقله، فهذا ليس سوى إسهاب في إجرام السلطة. هذا قد يفتح المجال على تدابير قد يتخذها الناس، بعضها بسيط كأساليب التدبّر للتنقل (نقل تشاركي، العمل عن بعد، تغيير مكان السكن والعمل) ولكنها على الأغلب ستكون غير كافية بتاتاً وتوشك أن تتطور إلى أعمال أكثر عنفاً وأذية.
إذًا، باختصار، إن نظام الباص السريع هو من أفضل أنظمة النقل المشترك وأكثرها فعالية في الدول الفقيرة كلبنان. إقامة هذا النظام أمر مطلوب وضروري جداً، حتى وإن تطلّب تمويلاً من مؤسسات كالبنك الدولي. فانهيار قطاع النقل في ظل الأزمة لا يتيح لنا ترف الاختيار. ولذا، تتمثل الكارثة اليوم بتطيير هذا المشروع، مهما كانت سيئاته من دون بديل، بل سيتم تحويل أمواله إلى بطاقة ستُخصّص لجزء من الناس فقط لتمويل شراء المحروقات (!) إن تطيير هذا المشروع ليس سوى مؤشر على أن السلطة تعيش في ترف ولا يعنيها قطاع النقل، بل تكاد تقول صراحة إن الوقوف في طوابير الذلّ هو ما تريده.
Commentaires