كيف يمكن تحويل الأزمة إلى فرصة؟ تقريباً، لا أحد يريد طرح هذا السؤال ولا حتى الإجابة عنه. ربما يكون النقاش السائد بشأن وقف دعم استيراد السلع الأساسية هو المدخل الأنسب لنقاش من الوزن البنيوي. فالاحتياطات بالعملات الأجنبية التي يتذرّع مصرف لبنان بأنها أموال المودعين التي لا يجوز استعمالها في الدعم، قد يصبح استعمالها ذا جدوى اقتصاديّة حقيقيّة بهدف تمويل نظام نقل عام يمثّل بديلاً مستداماً عن دعم الجزء الأكبر من المحروقات
الناس مشغولون بالنقاش الدائر حول رفع (أو ترشيد!) الدعم. دبَّ الرُّعب في قلوبهم خوفاً من ارتفاع الأسعار الذي سيولّده وقف دعم السلع الأساسية مثل الطحين، الدواء والمحروقات. قد تكون النتائج كارثيّة في مجال رفع الدعم عن الدواء مثلاً، وهو ما استحوذ على حيّز واسع من الاهتمام، إلّا أن رفع الدعم عن المحروقات لا يقلّ خطورة. مصدر الخطر الأبرز أن اللبنانيين يعتمدون بشكل كبيرٍ جداً على سيّاراتهم في تنقلاتهم (نصف التنقلات اليومية المقيَّدة وثلثا التنقلات غير المقيَّدة). لذا، إن رفع الدعم عن البنزين تحديداً، يهدّد القدرة على التنقل ويخلق عوائق اقتصاديّة ومجتمعيّة فرديّة وجماعيّة بطريقة مباشرة وغير مباشرة (تحمُّل كلفة تنقل أعلى، خسارة أو تغيير العمل، أو مكان السكن...). تأزّم نظام النقل والتنقل خلال الأزمات الاقتصادية ليس محصوراً بلبنان فقط. فقد شهدنا سابقاً في عدد من الدول التي مرَّت بأزمات اقتصادية كبيرة (اليونان، إسبانيا، البرتغال)، تغيُّر مهم في أنماط التنقل، وانخفاض في الإنفاق على النقل، وفي نسب حيازة واستعمال السيارة. فعلى سبيل المثال، انخفضت نسبة امتلاك السيارة في اليونان بين 15% و25% في بعض المدن، كما انخفض استخدامها في التنقلات بنحو 21% مع ثلثي السكان الذين توقّعوا استمرار هذا التراجع لفترة أطول مقابل ازدياد نسب اللجوء إلى النقل المشترك لتبلغ 17.5% والليّن (مشي على الأقدام والدراجات الهوائية) بنسبة 13.5%. العوامل الأساسية التي أدّت إلى هذا التغيير في النمط في هذه الدول كانت انخفاض المداخيل وارتفاع أسعار المحروقات، كما هو متوقّع أن يكون الحال في لبنان. إهمال متراكم هذا التغيير في أنماط التنقل لم يكن طوعياً بل كان إكراهياً، وخصوصاً بالنسبة إلى السكان الفقراء. فهم أجبروا على تعديل عادات تنقلاتهم والتخلّي عن السيارات والتوجّه نحو وسائط نقل بديلة مثل النقل المشترك الجماعي.
السؤال البديهي هو عن مصدر تمويل إنشاء هذا النظام في ظل الأزمة الراهنة. من الأجدى التفكير بتحويل مصادر تمويل الدعم من احتياطات مصرف لبنان، أو التضحية بجزء منها لإنشاء نظام نقل عام مشترك بدلاً من الاستمرار بتبديدها على دعم المحروقات التي لا تستفيد الطبقة الفقيرة منه سوى بنسبة 20%، فيما تذهب 80% لمصلحة الطبقات الوسطى والثرية والشركات والمؤسسات… كما يمكن تمويل إنشاء هذا النظام عبر اتّفاقيات مع دول أو شركات تُبدي استعدادها للاستثمار في هذا القطاع، وهم كثر بشرط أن نُقنِعهم بجدوى استثمار كهذا في الظروف الراهنة. في هذه الحالة، تكمن الصعوبة بأن تكون الدولة قويّة وقادرة على تحديد أهدافها ومصالحها لكي لا تكون طرفاً «ضعيفاً» (وهو أمر مستبعَد في ظلّ السلطة الحالية التي أظهرت ضعفها مراراً في حالات مشابهة).
عملياً، هناك نقص في الدراسات المتعلّقة بالنقل المشترك والليّن في لبنان، ما يجعلنا عاجزين نسبياً عن تحديد الكلفة المحدّدة لمختلف المشاريع، لذا يبقى الأمر حالياً ضمن التقديرات. فعلى سبيل المثال، إنّ دراسة وزارة النقل في 2013 قدَّرت كلفة إقامة شبكة باصات لبيروت الكبرى تقوم على 20 خطّاً لنحو 250 باصاً و910 محطات وقوف، بنحو 70 مليون دولار. أمّا بخصوص مشروع الباص السريع بين بيروت وطبرجا عبر مسارات مخصّصة، فإنّ الحكومة أقرَّت في تموز 2019 قرضاً بقيمة 295 مليون دولار من البنك الدولي لإقامة هذا المشروع عبر دمجه مع شبكة باصات بيروت. علماً بأن إقامة نظام باص سريع تُقدَّر كلفته بين 8 و12 مليون دولار لكلّ كيلومتر. أما بخصوص القطار فإنّ الدراسات أشارت إلى أن كلفته تتراوح بين 21 مليون دولار و27 مليون دولار لكلّ كيلومتر (خط بيروت - طرابلس مثلاً). وبالنسبة إلى النقل الليّن، فإنّ كلفته تُعدّ الأقلّ. كلفة إنشاء كيلومتر واحد من أوتوستراد هي أحياناً مماثلة لإقامة شبكة كاملة من مسارات الدراجات الهوائية في مدينة صغيرة: كيلومتر واحد مخصّص للدراجة الهوائية يُكلِّف نحو 220 ألف يورو مقابل 40 مليون يورو لكيلومتر الطرقات الحضرية و100 مليون يورو للأوتوسترادات.
تبدو الفرصة مناسبة للتذكير بأن إهمال النقل المشترك والليّن في لبنان لم يكن يوماً بسبب نقص التمويل، إنّما نتيجة التوزيع الخاطئ للاستثمارات. فعلى سبيل المثال، نسبة الأموال التي أُنفقت على النقل المشترك والليّن تكاد لا تُذكر أمام المبالغ التي أُنفقت على الطرقات في لبنان: 3.5 مليارات دولار بين 1993 و2017 يُضاف إليها أوتوستراد ضبية - العاقيبة (أُقرّ في 2017) أو نفق البقاع (تم إقراره في نيسان 2020) التي تزيد كلفة كلّ منهما على المليار دولار!
زحمة أقل واقتصاد أحسن
في إحصاء أجريناه في عام 2018، تبيَّن أن إقامة نظام نقل مشترك مستدام وفعَّال في لبنان كفيل بخفض نسبة استعمال السيارة بنحو 40% مقابل ارتفاع نسبة استعمال النقل المشترك بنحو 120% في التنقلات اليومية المُقيَّدة و55% في التنقلات غير المُقيَّدة، كما أبدى 28% من المقيمين في لبنان استعدادهم لاستعمال الدراجة الهوائية كوسيلة نقل وزيادة التنقل على الأقدام في حال تم إيجاد البنى التحتية اللازمة.
هذه الأرقام مرشَّحة للارتفاع بعد إرساء النظام المذكور (بعد التجربة، التسويق، حملات تشجيعية، انخفاض مخصّصات السيارة...) خصوصاً إذا أتى في ظلّ الأزمة الحالية.
ماذا يعني ذلك؟ أولاً، يعني أن فاتورة استهلاك المحروقات سوف تنخفض بشكلٍ ملحوظ وبالتالي ستقل الحاجة إلى استيرادها، ما يُسهم أيضاً بتخفيف هجرة العملات الصعبة. على سبيل المثال، السيارة تستهلك من الطاقة ما معدّله 2.3 مرات أكثر من الباص، 13 مرة أكثر من المشاة و35 مرة أكثر من الدراجة الهوائية.
يجدر التشديد على أن هذا الانخفاض لا يعني تقليل نسب وحجم تنقلات اللبنانيين إنما على العكس، وبخلاف نظام النقل الحالي، فإنّ وجود نظام نقل مشترك وليّن مستدام سيؤمِّن تنقلاً أسهل، أرخص، وأكثر عدالة ينعم به كل المقيمين وليس «المحظيون» فقط ممن سيستطيعون الاستمرار بتحمل كلفة استعمال السيارة خصوصاً بعد رفع الدعم عن المحروقات.
ثانياً، وبعكس الشائع، فإنّ الأزمات الاقتصادية تلعب غالباً دوراً مساعداً في تظهير خيار النقل المشترك والليّن بما أنه، في ظل هذه الأزمات، تنخفض نسب استعمال السيارة وتتجه الناس أكثر نحو النقل الرديف. إذاً، علينا «استغلال» هذه الأزمة وتحويلها من تهديد لتنقلاتنا، عبر «حرماننا» من السيارة إلى فرصة لوضع حجر أساس أوّل وقويّ لنظام نقل مستدام وعادل.
الإضافة إلى ذلك فإنّ إقامة نظام نقل مشترك وليّن هو عامل محفّز للنمو الاقتصادي. فالاستثمارات في البنى التحتية المخصّصة لهذين النوعين من النقل تؤمّن عدداً مهماً من الوظائف المباشرة وغير المباشرة، كما أنها تُسهم بتحريك الاقتصاد المحلي في المدن والمناطق المعنيّة. وعدا عن هذه الفوائد المباشرة، فإنّ إرساء هذا النظام كفيل بخفض زحمة السير، زيادة السلامة المرورية (خفض تدريجي للحوادث المرورية بنسبة 70%) وخفض التلوث البيئي (23% أقل من الانبعاثات السامة) ما يوفر ما بين 3% و4% من الخسائر نسبةً إلى الناتج المحلي، كما أنه يساعد في تخفيف إشغال السيارة للحيّز العام ما يُفسح المجال لاستعادته للناس وتحويله إلى مساحات عامة مفتوحة.
أخيراً، يجب التشديد على أن النظام الطوائفي الذي أوصلنا اليوم إلى الإفلاس وإلى انهيار معظم القطاعات وخصوصاً قطاع النقل، لم يعد مخوّلاً الأخذ على عاتقه أيَّ إجراءات أو مشاريع. لذا، أوّل شرط لإقامة نظام نقل مستدام وعادل هو إيجاد سلطة حقيقية تدير دولة فعليّة وقادرة تستبدل سلطة العجز واللّاقرار الحالية.
Comments