مع رفع الدّعم شبه الكلّي عن المحروقات وتفاقم أزمة النقل، ازداد الحديث عن النقل المشترك باعتباره ردّ فعل طبيعي على النقص في خيارات الانتقال، أي أنه إجراء ما بمفاعيل محدودة في الزمان والمكان. بينما قطاع النقل هو متجذّر في بنية السكان وقدراتهم الإنتاجية. هو جزء من التخطيط المدني للعقارات والطرقات وأماكن السكن والترفيه والتعليم وأكلاف المعيشة... لذا، إن الاتصالات التي أجراها وزير الأشغال العامة والنقل علي حمية مع السلطات الفرنسية طلباً لباصات توزّع في بيروت وبعض المناطق، إلى جانب تصريحات وزير الطاقة وليد فياض عن دعم السائقين العموميين، قد يكون بداية مهمّة، لكنها قاصرة عن تحديد وظيفة وسائل النقل في النموذج السياسي - الاقتصادي للبنان.
اصطناعياً، صمد نظام النقل في لبنان لنحو 30 عاماً، لكنه انهار، كما انهارت غالبية الخدمات في لبنان. فعلى وقع تقنين استيراد المحروقات وشحّها في السوق، ثم رفع أسعارها الداخلية وارتفاع أكلاف صيانة السيارات وضعف خدمات النقل المشترك، تدهورت قدرة المواطنين على التنقّل بسلاسة. أول ردّ فعل لوزيري النقل علي حمية والطاقة وليد فياض، كان التعامل مع تداعيات رفع الدعم (رفع الأسعار الداخلية للمحروقات) عبر محاولة استحضار باصات من فرنسا، وتقديم دعم للسائقين العموميين. فهل يمثّل ردّ الفعل هذا باباً للتعامل مع أزمة النقل البنيوية، أم أنه مجرّد إجراء ستنتهي مفاعيله لاحقاً ولن تتمدد في اتجاه تطوير رؤية أشمل لقطاع النقل في لبنان؟ خلال العقود الماضية لم يُؤسّس لوجود النقل المشترك. بل اقتصرت خدماته على تراكم عشوائي لآلاف المركبات على الطرقات تسير بطريقة حرّة بلا ضوابط أو التزامات أو معايير. أما باصات الدولة فهي كانت في حال تناقص متواصل إلى أن بات عددها يقتصر على أقل من 17 باصاً. لذا، فإن استيراد المزيد من الباصات واستعمالها بطريقة عفوية من دون أن تكون جزءاً من خطّة مكتملة، سيفقدها دورها الوظيفي. يأتي ذلك، في ظل اعتقاد سائد بأن الأزمة ستلزم الناس بتغيير عادات تنقلها وستكثّف استعمال النقل المشترك بدلاً من سياراتها. ورغم أن هذا الأمر صحيح نسبياً، لكن التجارب حول العالم تشير إلى تكثيف استعمال النقل المشترك في ظروف غير عادية، يتركّز في المدن وعند الفئات الشابة والطبقات الفقيرة بسبب عدم وفرة الخيارات أمامهم؛ كلفة السيارة الكبيرة سواء في سعرها أو في تشغيلها وصيانتها هو خارج قدرة هذه الفئات. في المقابل، تعاند الفئات الباقية قبل التخلي عن سيارتها وهذا ما يتماثل مع المشهد اللبناني حيث خصائص العمل والسكان تحتّم استعمال السيارة. يُضاف إلى ذلك أن هناك أسباب سيكولوجية ونفسية تفرض على غالبية الناس عدم التخلّي عن سياراتها بسهولة ومهما اشتدّت الأزمة. كل ذلك يعني أن زبائن الباصات الجديدة هم أنفسهم سيكونون الزبائن السابقين بالإضافة إلى قلّة قليلة من الفئات التي لا خيارات لها. هكذا يصبح الحديث عن استعمال النقل المشترك كردّ فعل محدود تجاه الأزمة، أمراً قاصراً عن التعامل مع حاجات المجتمع الأساسية.
هنا تكمن إشكالية ثانية: غياب استدامة النقل المشترك. هذه الإشكالية موجودة أصلا لأن السلطة تقدّم النقل المشترك باعتباره وسيلة للفقراء حصراً، ما يضرب الفكرة من وجود هذا القطاع. نقل مشترك لا يستعمله الغني قبل الفقير، هو نظام فاشل، كما تبيّن من تجارب أميركا ودول الخليج وبعض دول أوروبا الغربية في بدايات القرن الماضي. لذا، يجب الانسحاب من هذه السردية وتقديم نظام النقل المشترك باعتباره وسيلة انتقال متاحة للجميع وعادلة، وهذا لا يمكن أن يحصل بلا خطّة أو رؤية واضحة للقطاع. هنا أيضاً يكون إحضار بضعة باصات بشكل سريع، عبارة عن إنجاز وهمي تعزّز الصورة السيئة التي يملكها الناس في أذهانهم عن النقل المشترك.
ما يحتّم أيضاً وجود رؤية متكاملة للقطاع، هو أن النقل المشترك ذو فعالية أعلى ضمن المدن ويربطها ببعض، لكن تصبح هذه الخدمة محدودة جداً وذات فعالية ضئيلة في القرى والبلدات بسبب التوزع العمراني والمسافات وضعف الكثافة. وبالتالي فإن التعامل مع الباصات باعتبارها مخصصة للمدن أمر يعزّز اللاعدالة، علماً بأن التنقل في المدن هو أسهل والخيارات متاحة أكثر (قارن بين التنقل بدون سيارة ضمن بيروت، أو صيدا، أو طرابلس، وبين التنقل في إحدى القرى). الرؤية الشاملة يجب ألا تعزّز أفضلية المدن. صحيح أن تغطية النقل المشترك لكل الأراضي مشكلة تواجهها كل الدول، لكن هناك حلول تكمن في تعزيز الخدمات الأساسية في القرى أو التشجيع على التكثيف العمراني فيها. في فرنسا مثلاً، طرحت فكرة «تمدين القرى» أي إيجاد كل ما تحتاجه القرية ضمن القرية مع الحفاظ على هويتها القروية، وبالتالي تقلّ الحاجة إلى التنقل أو وتيرتها. كذلك يمكن تعزيز العمل عن بعد. لكن حلول كهذه تلقي مسؤوليات كبيرة على البلديات لتعزيز انخراطها في الرؤية الشاملة للنقل في لبنان. البلديات بإمكانها تعزيز النقل السلس (مشاة ودراجات هوائية) وتنظيم النقل المشترك (جردة، مواقف، محطات، مسارب) ضمن نطاقها. إنجاح أي خطة للنقل أو لتعزيز النقل المشترك، لا بد أن تأخذ بالاعتبار تكامل وسائل النقل، إذ إن غياب الاستدامة وتعميق اللاعدالة سيعزّز تغييب الحديث عن أشكال النقل الأخرى مثل المشي والتنقل بالدراجة الهوائية.
وحتى لا نعيد تكرار تجربة باصات «كاروسا» في 1997، فإن الحديث عن المواصفات ليس مجرّد تفصيل. نعتقد أن الحديث عن الباصات المستقدمة من فرنسا يتعلق بباصات مستعملة بسعر منخفض وهذا يستدعي خطّة سريعة جداً لاستقدام أسطول حديث سريعاً. وعلى جانب ذلك الشق التقني، هناك شقّ إداري من الضروري معالجته: إنشاء هيئة ناظمة لقطاع النقل تجنّباً لتضارب الصلاحيات بين الجهات المعنية بالقطاع (الوزارة، مصلحة النقل المشترك، مجلس الإنماء والإعمار، البلديات، الوزارات الأخرى)، وهذا التضارب هو بطبيعته معطّل. فيكون لهذه الهيئة صلاحيات واضحة ومركزية قرار.
والمستغرب جداً، أن ينطلق الحديث عن هبات أو قروض لشراء الحافلات بينما ما زال قرض البنك الدولي لمشروع الباص السريع بين بيروت وطبرجا وضمن بيروت الكبرى، سارياً (أقلّه رسمياً، في انتظار إقرار قانون مجلس النواب لتحويله إلى البطاقة التمويلية). كنا ننتظر من وزير الأشغال والنقل الجديد، الانطلاق من هذه الخطة لا سيما أنها منجزة ومقرّة التمويل. كذلك يؤمل من الوزير الجديد أن يبدأ بالحديث عن النقل المشترك الشعبي القائم حالياً (نحو 53 ألف مركبة بين سيارات أجرة، فانات، وباصات). هل سنخلق باصات شعبية للفقراء، وباصات لفئات اجتماعية أعلى، ونترك السيارات للأثرياء؟ هل سنخلق طبقات من خدمات الدولة للمجتمع؟
لكن ماذا عن دعم السائقين العموميين؟ بدا وزير الطاقة الجديد كأنه يتبنى خطّة اتحاد نقابات سائقي النقل المشترك التي نوقشت مع وزراء المال والنقل السابقين وهي تتضمن إعطاء كل سائق عمومي، يومياً، صفيحة بنزين أو مازوت بسعر مدعوم (البنزين بـ100 ألف ليرة، والمازوت بـ70 ألف ليرة) بالإضافة إلى 500 ألف ليرة شهرياً بدل صيانة. يبدو أن فياض استعجل تبني هذه الخطة لأن الصفائح ستتحوّل إلى تبادلات في السوق الحرّة (السوداء) فضلاً عن أن ثلث قطاع النقل المشترك في لبنان غير شرعي، وجزء كبير من مالكي اللوحات العمومية لا يعملون في هذا المجال، مقابل جزء كبير من السائقين الذين لا يملكون لوحة عمومية بل يستأجرونها.
Commenti