لن يتوقّف تدهور الخدمات الأساسية الناجم عن الإفلاس وشحّ الدولارات والتقشّف عند انقطاع التيار الكهربائي أو تراجع نوعية خدمة الخلوي أو تردّي الخدمات الصحّية والتعليم، بل سيطال أيضاً الخدمات العامّة والأساسية الأخرى، وأبرزها النقل، نتيجة ارتفاع سعر الدولار ومعها قطع غيار السيارات، واستمرار النزف في العملات الأجنبية وتراجع إمكانية تأمين المحروقات بطريقة مستدامة وبكمّيات كافية، فيصبح التنقّل في السيارات الخاصة مكلفاً جدّاً وربّما غير ممكن للبعض، في ظلّ عدم توافر نظام للنقل العام. سُيِّرت آخر رحلة ركّاب في قطار لبنان في عام 1991، ثم استمرّ القطار في نقل البضائع لمدّة عامين قبل أن يتوقّف عن العمل نهائياً. من يومها، لا يحظى المقيمون في لبنان بنقل عام سريع، وعمدوا إلى تعويض حرمانهم من خدمات النقل العام، باستخدام السيارات الخاصّة، ولو بالدَّيْن. فقد بلغ عدد قروض السيارات حتى الربع الأول من عام 2019 نحو 73 ألفاً بقيمة 964 مليون دولار، أو باللجوء إلى النقل المشترك الخاص رغم ضعف خدماته. النقل بالأرقام يقدّر عدد السيارات في لبنان بنحو 1.53 مليون سيارة خاصّة، أي ما يعادل 90% من مجمل أسطول المركبات، علماً بأن 70% من مجمل الأسر في لبنان تمتلك سيارة واحدة على الأقل (89% من الأسر التي تقطن المدن أو ذات الدخل المتوسط والمرتفع)، ما يعني وجود 307 سيارات لكلّ ألف مقيم. وهو معدّل مرتفع جداً مقارنة مع المتوسط العالمي الذي يبلغ 182 مركبة لكلّ ألف مقيم، ومعدّل دول أوروبا الشرقية وروسيا (281 مركبة لكلّ ألف مقيم)، وحتى معدّل الشرق الأوسط (105 مركبات لكلّ ألف مقيم). وتعدّ بيروت من أكثر المدن تسييراً للسيّارات في الشرق الأوسط بمعدّل 350 سيارة لكلّ ألف مقيم، ما يعني نسبة استخدام مرتفعة للسيارات التي تؤمّن أكثر من 80% من التنقلات المُمكننة (آليّات مزوَّدة بمحرّكات)، ونصف التنقلات المُقيّدة (بين مكان السكن ومكان العمل/الدراسة) وثلثي التنقلات غير المُقيّدة (بهدف الاستهلاك والتسلية والزيارات...). في المقابل، تؤمّن مركبات النقل العام 40% من التنقلات المُقيّدة وثلث التنقلات غير المُقيّدة، ونحو 7% فقط من مجمل التنقلات يجريها اللبنانيون سيراً على الأقدام نظراً إلى الغياب شبه التام للدرّاجة الهوائية. الاقتصاد السياسي للنقل تعود هيمنة السيارة على تنقّلات اللبنانيين إلى الاقتصاد السياسي لفترة ما بعد الحرب الأهلية الذي أضعف خدمات النقل العام لصالح التطوير العقاري وخصوصاً في المركز، أي بيروت الكبرى وجبل لبنان، وأمّن الحماية لمصالح مستوردي الفيول والسيّارات الذين استفادوا من ارتفاع مداخيل الأسر الناجم عن تحويلات أفرادها المهاجرين، وما نتج عن ذلك من عوامل اجتماعية وثقافية عزّزت استخدام السيارات الخاصة، فضلاً عن سياسة توسيع البنية التحتية المخصّصة للسيارات مثل شبكة الطرق والمواقف، والتوسّع العمراني والمدني. أفرز هذا الواقع نتائج سلبية عدّة، أبرزها زحمة السير الخانقة في المدن وعلى المحاور الرئيسية، وارتفاع معدّل التلوّث البيئي، وضعف السلامة المرورية، وتحفيز التوسّع العمراني، وخسارة مساحات واسعة من الحيّز العام لصالح إنشاء الطرقات والمواقف. تقدّر الكلفة الاجتماعية لهذه الإفرازات بأكثر من 7% من مجمل الناتج المحلّي (2015)، ويضاف إليها أثر اجتماعي سلبي يتمثّل في غياب العدالة في التنقّل بين المقيمين، كما هو الحال في غالبية البلدان الغنية ذات أنظمة التنقّل المعتمدة على السيارة. تعميق انعدام المساواة أنتجت هذه السياسة المعتمدة طوال 30 عاماً تلت الحرب اللبنانية، انعداماً في المساواة في التنقّل، وهو ما يظهر من خلال الفرق في سرعة وسهولة الوصول بين مستخدمي السيارة ومستخدمي وسائل النقل الأخرى، والناجم عن عوامل عدّة أبرزها: - غياب قدرة فئات مجتمعية عدّة على امتلاك أو استخدام السيّارة (الأسر ذوي الدخل المحدود والمسنّين والأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصّة والأشخاص الذين لا يملكون دفاتر سوق...). - ضعف خدمات النقل العام في لبنان، فهي ليست منظّمة، وفي الوقت نفسه مكلفة قياساً إلى جودتها، وانحصارها في بيروت الكبرى، وبالتالي غيابها في غالبية المناطق الطرفية. فضلاً عن كون التنقّل بالسيّارة أسرع مرّتين من التنقّل بالباصات في السفر الحضري (ضمن بيروت مثلاً)، وأسرع بنحو 1.3 مرّة في السفر بين المناطق (بيروت - عكار على سبيل المثال). علماً بأن هذا الاختلاف في سرعة وإمكانية الوصول يعزِّز انعدام المساواة بين مستخدمي السيارات الخاصّة ومستخدمي وسائل النقل العام. - التوزّع الاقتصادي والديموغرافي في لبنان، الذي يتّسم بتركّز عمراني وسكّاني واقتصادي وسياسي في بيروت الكبرى. أدّى ذلك إلى رفع جاذبية هذه المنطقة، وحفّز عملية النزوح في اتجاهها خصوصاً من الأطراف والضواحي القريبة منها. وتعزّز هذا العامل أكثر بالتمدّد المدني المستمرّ الناتج عن الهجرة من الأطراف باتجاه المدينة والهجرة المعاكسة من المدينة باتجاه ضواحيها بسبب غلاء كلفة المعيشة فيها حتى أصبح مستخدمو السيّارات الخاصّة يتمتعون بامتياز مقارنة مع مستخدمي باقي وسائط النقل. هذا الامتياز يتيح لهم الوصول إلى المركز حيث توجد الوظائف والخدمات بسهولة أكبر، وهو يترسّخ أكثر مع زيادة معدّل استخدام السيارة. كلّما ارتفع عدد سائقي السيارات، ازدادت الخدمات المرتبطة به بطريقة مباشرة مثل شبكة الطرق والكراجات والمواقف، وبطريقة غير مباشرة مثل أماكن التسوّق.
يظهر انعدام المساواة، أيضاً، من خلال مخصّصات التنقّل ضمن ميزانية الأسر. ففي البلدان التي يعتمد سكّانها بشكل كبير على السيارات الخاصّة في تنقلاتهم، كما هو الحال في لبنان، تكون كلفة التنقّل عالية، لا سيّما لناحية أكلاف امتلاك سيارة واستهلاكها وصيانتها وشراء الوقود. عملياً، تستحوذ مخصّصات التنقّل على نحو 13% من مداخيل الأسر و14% من مجمل نفقاتهم، وهي كلفة مرتفعة نسبياً، تعزّز انعدام المساواة بين الأسر بحسب مداخيلها، وتشكّل ضغطاً عليها، يزداد مع انخفاض مستوى الدخل، ما يؤدّي إلى خطر «استبعادها اجتماعياً».
وبما أن أشدّ الأسر فقراً هم الأقل قدرة على الوصول إلى السيّارة (نحو 70% من الأسر الأكثر فقراً في لبنان لا تمتلك سيّارة)، وفي ظل غياب نظام نقل عام متطوّر ومستدام، تجد هذه الأسر نفسها أمام مدى وسرعة وصول منخفضين إلى الخدمات والوظائف مقارنة مع باقي الأسر. ويصبح هذا الانخفاض أكثر تأثيراً في حال كانت العائلات الفقيرة تسكن في الأطراف بعيداً من المركز.
رزق الله عَ العربيات!
مع اشتداد الازمة الاقتصادية وتدهور قيمة الليرة والاعتماد على الاستيراد لتأمين الاستهلاك المتعلّق باستخدام السيارة (المركبات والوقود وقطع الغيار) من جهة، وانخفاض قيمة الدخل وازدياد معدّل الفقر من جهة أخرى، يبدو أننا متجهون إلى نوع جديد من انعدام المساواة في التنقّل، يتلخّص بانحصار امتياز التنقّل بسهولة وحرّية بالأسر المرتفعة الدخل. وسيصبح استخدام السيارات الخاصة مكلفاً على شريحة كبيرة من المجتمع، ما يدفعها إلى التخلّي عنها، أو استخدامها وتحمّل أكلافها المرتفعة على حساب خدمات وحاجات أساسية أخرى بسبب غياب بديل فعّال.
ماذا يعني ذلك؟ اضطرار عدد كبير من الأفراد إلى اللجوء إلى حلول فردية للحدّ من خسائرهم، مثل:
- استخدام النقل العام بشكله الحالي وتكبّد وقت أطول في التنقّل مع راحة أقل.
- اللجوء إلى النقل التشاركي أي مشاركة السيارة بين أشخاص عدّة للتنقّل نحو وجهة واحدة مثل العمل.
- تخفيف تكاليف استخدام السيارة مثل إلغاء التأمين وإهمال الصيانة والتخلّي عن استهلاك المواقف.
قد تكون هذه الخطوات قابلة للتطبيق وكلفتها محدودة في بعض الحالات، إلا أنه في حالات أخرى سينتج عنها كلفة أكبر وصعوبة متصلة بتغيير مكان السكن ليصبح أقرب إلى العمل أو حتى تركه لصعوبة الوصول إليه.
ما العمل؟
يحيلنا ذلك إلى تساؤلين: ما هي الآثار الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن تغيير مستوى تنقّل المقيمين؟ هل أخذت السلطة إجراءات للحدّ من هذه الآثار، أم أنها اعتمدت سياسة اللاقرار مجدّداً ما سيؤدّي، تدريجاً، إلى تشكّل طبقة محظية قادرة على التنقّل بطرق سهلة وسريعة، في مقابل أكثرية محرومة من التنقّل أو ترزح تحت ضغط تكاليف التنقّل المرتفعة جداً؟
بطبيعة الحال، لا يمكن للحلّ أن يكون تقنياً بل سياسياً، وهو ينطلق من وجود دولة قادرة على اتخاذ القرارات وحماية المجتمع وبناء اقتصاد، أي دولة مدنية لا يحكمها التحاصص الطائفي، يتمّ التأسيس لها خلال مرحلة انتقالية تديرها حكومة ذات صلاحيات تشريعية، قادرة على اتخاذ قرارات سريعة تؤمّن حقوقاً للناس، ومن ضمنها نظام نقل أكثر عدالة واستدامة وتطوّراً وتكاملاً، وإيجاد البدائل الممكنة وبأقل تكلفة، واستغلال الانخفاض المتوقّع في معدّل استخدام السيارة لإرساء هذه البدائل كوسائط معتمدة للتنقّل.
コメント