صامت الدولة اللبنانية لعقود في قطاع النقل... وربما تكون قد فطرت على بصلة. فبعدما أدّت اللاسياسات التي اتبعتها الحكومات المتعاقبة إلى ضرب النقل المشترك وتشريع الفوضى، تحاول اليوم استلحاق نفسها بالاتكال على هبة باصات من فرنسا، ستؤدي في غياب الخطط والمعطيات العلميّة إلى تسريع الانتقال إلى الهاوية... إلا إذا كانت هناك نية فعلية للقطع مع الماضي، على ما يؤكّد وزير الأشغال.
بعدما قضت الحكومات المتعاقبة على قطاع النقل المشترك، مشجعةً الناس على تملّك السيارات الخاصة، تعمل اليوم على القضاء على وسيلة التنقل الأكثر استخداماً (70% من التنقلات تعتمد على السيارات)، عبر رفع الدعم عن المحروقات ورفع الدولار الجمركي بما يعنيه من رفع لأسعار السيارات وجعلها خارج متناول كثيرين... كل ذلك في غياب حلول جدية مدروسة لتنشيط النقل العام. سيناريو «لم تشهده أكثر الدول تشدداً في سياساتها للحدّ من استخدام السيارات»، على ما يقول الباحث المتخصّص في أنظمة النقل وعادات التنقل علي الزين. في المحصلة، نتجه إلى وضع كارثي حيث لا قدرة على استعمال السيارات الموجودة في الخدمة أو إصلاحها، ولا قدرة إلا لـ«جماعة الدولار» على شراء سيارات جديدة، فيما النقل المشترك يعمل على قاعدة «سيري فعينُ الله ترعاكِ». وزير الأشغال والنقل علي حميّة طلب من الدولة الفرنسية هبة من 1000 باص. ووافق الفرنسيون، على ما صرّح حمية، على الطلب... لكن من دون تحديد عدد الباصات، وعلى أن تُقسّم الهبة، أياً يكن حجمها، على دفعات، لتقييم العمل وكيفية إدارته، نظراً إلى تجارب سابقة غير مشجّعة مع الحكومة اللبنانية. وصول الباصات يفترض أن يكون في أسفل اللائحة. فقبل هذه الخطوة، هناك مسار معقّد يفترض سلوكه لمعرفة كيفية توظيفها بالشكل الأكثر فعالية. يوضح الزين أنه «في حال افترضنا أن هناك موافقة على تسليم 1000 باص، فهذا يعني الحاجة إلى توظيف بين 2000 و3000 سائق إذا كانت ستُشغّل لدوامين أو ثلاثة، فمن أين سيأتون بهذا العدد؟ ما هي المحفّزات لهؤلاء؟ ناهيك عن الباب الواسع الذي يفتحه هذا الأمر أمام الزبائنية والمحسوبيات والتوظيف العشوائي». ثم، «من قال إن السائقين الذين سيتم اختيارهم يصلحون لقيادة الباصات التي تتطلّب مهارات معيّنة، وانضباطاً في القيادة، وسلوكيات محدّدة للتعامل مع الركاب، ما يفرض إخضاعهم لدورات تدريب وتأهيل». أضف إلى ذلك أن وجود الباصات من دون دراسات مسبقة قد يعمّق الأزمة عوض الحد من آثارها، إذ إن العديد من خطط النقل خصوصاً لبيروت الكبرى وضواحيها لم تُقر في مجالس الوزراء المتعاقبة. وأحد الأسئلة الجوهرية قبل الإقدام على طلب الهبة هو «تحديد المناطق حسب الأولويات، وكم باصاً يجب أن نشغل على كل خط؟»، وفقاً للزين. كما أن «من المهم جداً تحديد حجم الباصات ونوعها، فليست كل الباصات تصلح لجميع المناطق والطرقات. المناطق الجبليّة ذات الطرقات الضيقة والوعرة، مثلاً، يُستحسن أن تُستخدم فيها فانات صغيرة. والدولة هنا لا تملك أي إحصاءات أو أرقام». يوضح حميّة لـ«الأخبار»، رداً على هذه التساؤلات، أن «لدى مصلحة النقل المشترك عدداً من السائقين، وننتظر معرفة عدد الباصات التي ستسلم لتحديد العدد الإضافي الذي يفترض تأمينه»، مؤكداً أن «الاختيار سيأخذ في الاعتبار توزيع الباصات جغرافياً، بحيث يجري اختيار السائقين من تلك المناطق وفق معايير صارمة تراعي الخبرة وضمان المحاسبة وعدم هدر المال العام». وكشف عن مساع يبذلها مع «شركة صينية لتأمين نظام مراقبة للباصات يساعد على تحديد مواقعها وسير العمل وطبعاً تحسين الخدمة عبر معالجة الثغرات والمشاكل التي قد تطرأ». أما التوزيع الجغرافي، بحسب حميّة، فسيقسم على أساس ثلاث مناطق «تغطي الخطوط الرئيسية للنقل في لبنان. فإضافة إلى بيروت الكبرى وجوارها، هناك خط من بيروت إلى الناقورة، وخط من بيروت إلى العبودية، وآخر من بيروت مروراً بزحلة وضهر البيدر وصولاً إلى الهرمل. وكلما ازداد عدد الباصات سنزيد مناطق إضافية في الخطة». أما دوامات السير «فالأمر مرتبط بعدد الباصات أيضاً. كلما ازداد عددها كلما زاد دوام تشغيلها». الأسئلة لا تتوقف هنا، إذ ماذا عن جودة الباصات وهل هي جديدة أم قديمة؟ يؤكد الزين أنه، بحسب متابعته، «يبدو أن الباصات التي ستتبرع بها فرنسا مستعملة. وهنا المشكلة تصبح أكبر، لأنها ستتعطّل بشكل أسرع، وتتطلّب صيانة وشراء قطع غيار لها. فهل تملك الدولة الإمكانات لاصلاحها وصيانتها؟ الوزير حميّة أعلن أخيراً أن الدولة تملك 45 باصاً خارج الخدمة، فما الذي يضمن ألا تنضمّ الباصات الفرنسية إليها؟». ينتظر الوزير «نهاية الشهر حتى تتبلور الأمور بوضوح». لكن «المطمئن هو ان الاتحاد الأوروبي يفرض معايير واضحة للآليات حتى ولو كانت مستعملة، ما يفترض أن يقلل من الأعطال». أما المازوت لتشغيلها فـ«مؤمّن من خلال ميزانية مخصصة لهذا الغرض في مصلحة سكك الحديد والنقل المشترك».
مشروع بهذا الحجم يتطلب إدارة تراقبه وتسهر على حسن سير العمل فيه، بحسب الزين، لذلك «من الطبيعي أن تتولى هذه المهمة مصلحة سكك الحديد، لكنّ العاملين في هذه المصلحة جُلهم من كبار السن وممن لا يملكون المؤهلات التقنية لإدارة مشروع كهذا بالفعّالية المطلوبة». الحلّ، هنا أيضاً، موجود وفق حمية، «من خلال التدريب الذي سيوفره الفرنسيون للموظفين».
أما المشهد الأكثر سوريالية فقد يكون في اندلاع تنافس قد يتحول عنفياً بين سائقي النقل المشترك العام وسائقي باصات النقل المشترك الخاص «الذين سيشعرون بالمنافسة وبتراجع أرباحهم، وهو سيناريو شهدناه أواخر التسعينيات حين أقدم عدد من السائقين على حرق وتكسير باصات تابعة للدولة»، وفق الزين. هذا الأمر يفترض أن يحلّه «وضع إطار قانوني يرعى الشراكة بين القطاعين العام والخاص» على ما أكّد وزير الأشغال. لكن، من يضمن نجاح شراكة كهذه، خصوصاً أن «التجارب أثبتت أنه كان يجري الاتفاق على كل شيء في مجلس الوزراء، لكن تتعرقل الأمور فجأة حين يُطرح موضوع النقل المشترك للبحث».
يشدد حميّة على أن «أي تنظيم للعلاقة سيكون في إطار قانوني بحت وليس وفق منطق المسايرة. لا أريد أن أعد ففي النهاية هناك دور لمجلسي النواب والوزراء لضمان اقرار القوانين اللازمة وتطبيقها. لكن مسار الأمور يشي بأن الجميع مستعد لتحمل مسؤولياته ومنح هذا الموضوع حقه الطبيعي»... ومن يعش يرَ!
Comentários