نُشر في المفكرة القانونية : 15/07/2024
بعد أكثر من سنتين على استلام الحافلات وسنة ونصف على فشل التشغيل الأول، ها هي حافلات الدولة (50 حافلة من هبة فرنسية و45 حافلة من أسطول مصلحة سكك الحديد والنقل المشترك) تعود للخدمة مجددًا، ولكن هذه المرة عبر تشغيل من القطاع الخاص بعد أن فازت شركة الأحدب بالمزايدة في شباط 2024. في هذه التجربة الجديدة العديد من الإيجابيات، لكن للأسف تظلّ سلبياتها أكثر بروزًا. يهدف هذا المقال إلى مناقشة هذه الانطلاقة الجديدة لخدمات النقل المشترك “الرسميّة” وتسليط الضوء على مكامن الخلل التي تحول دون اعتبارها خطة نقل مشترك حقيقية.
إيجابيات الانطلاقة الجديدة
عدا عن أنه في بلد محروم من خدمات نقل مشترك منتظمة وفعّالة منذ عقود يتحول مجرد الحديث عن هذا القطاع الحيوي نقطة إيجابية، فإن مقارنة الخطة الحالية لتسيير حافلات الدولة بما حدث في ديسمبر 2022 أو حتى بالتجارب السابقة (مثل تجربة عام 2012)، نرى أن الفرق شاسع، إيجابًا بالطبع. فعلى عكس المحاولات السابقة يبدو أن بعض التدابير والإجراءات هذه المرة أفضل، على الأقل حتى الآن. نذكر أبرزها:
-دمج القطاعين العام والخاص بحيث تكون الدولة هي المنظّم والشركة الخاصة هي المشغّل، وذلك بشكل مشابه لما يحصل في معظم دول العالم، مع التشديد على ضرورة أن تبقى سيادة الدولة على هذه الحافلات وخطة تشغيلها، فيما يبقى الشق التقني من مهام القطاع الخاص،
-الإصرار على إعادة محاولة تشغيل الحافلات رغم الفشل السابق،
-التدرج في وضع الحافلات في الخدمة على الخطوط على دفعات،
-التفكير في آلية دفع ممكننة عبر بطاقات مسبقة الدفع مع الحفاظ على إمكانية الدفع نقدًا،
-التفكير في وضع مواقف على جوانب الطريق، ورغم أنه كان يجب أن تسبق هذه الخطوة وضع الحافلات في الخدمة، إلا أن مجرد التفكير بها يعدّ خطوة جيدة، بشرط التزام الحافلات والركاب بالتوقف عند هذه المواقف وتجنب الركن العشوائي للصعود والنزول،
-الاستفادة من التكنولوجيا المتوفرة في الحافلات (كاميرات، أجهزة تتبع، وغيرها).
لماذا لا يمكن اعتبارها خطة نقل مشتركة كاملة؟
ورغم أهمية هذه الإيجابيات، إلا أنها غير كافية للأسف لاعتبار ما تمّ الإعلان عنه خطّة نقل مشترك كاملة، ولا يمكن القول بأن السلطة أصبحت جاهزة لتنظيم وتطوير هذا القطاع بالفعل.
البداية مع الضعف في الحملة الإعلامية وغياب الحملة الإعلانية لهذه الحافلات: فالناس لم تتبلّغ انطلاق الخطّة سوى عبر مؤتمر صحفي للوزير والشركة المشغّلة وبعض المسؤولين، مع غياب شبه تامّ لأية تفاصيل تقنية حول خطوط سير الحافلات ومواقيت عملها ومرورها وبعض الخصائص التقنية الأخرى مثل السعة، عدد المواقف وأماكنها. وهذه تُسجّل كأول نقطة سلبية لهذا المشروع، فالمستخدم يجب أن يكون محور أي خطة. وعليه، كان على القائمين على المشروع إبلاغ الناس بكل هذه التفاصيل التقنية قبل إطلاق المشروع، مع العلم أنّ ذلك يتطلّب إجراء دراسات كافية وشاملة لكل هذه النقاط لاختيار أفضلها قبل إعلام الناس، وهو ما لم يحصل. بل أكثر من ذلك، كان من الأجدى أن تُبنى أي خطة على أرقام دقيقة (قدر الإمكان) ومحدّثة لتنقل الواقع وتنقلات الناس، وعليها تُبنى الخطة التي من المفترض أن تجيب عن حاجات الناس. وهذا يتطلب إجراء مسوحات شاملة لعادات التنقل، تمركزها، وخصائص المستخدمين[1]. ومن المستحسن أيضًا إجراء جلسات نقاش علنية ومفتوحة لاستطلاع آراء الناس. في النهاية، فإنّ تأمين حاجات المستخدم هو هدف أيّ مشروع خدمة عامة.
غياب الدراسات يأتي ليستكمل الغياب الأبرز وهو عدم وجود خطة استراتيجية لقطاع النقل أو رؤية واضحة للدولة حول هذا القطاع. وهذه هي النقطة الأضعف في حوكمة قطاع النقل في لبنان، حيث يتمّ العمل غالبًا على النقاط بشكل منفصل وموضعي وعشوائي، وليس بناءً على خارطة طريق واضحة. يؤدّي ذلك إلى إضعاف فعاليّة أيّ إجراء في هذا القطاع، كما يكشف عن الإهمال والاستهتار بقطاع النقل. ولإنجاح أيّ قطاع، يجب أولًا وضع تصوّر له بما يتناسب مع متطلّبات وشكل المجتمع والاقتصاد الذي يسعى هذا القطاع إلى خدمته. بناءً على هذا التصور، تأتي خطة العمل على المدى القصير والمتوسط والطويل، قبل الانتقال إلى الدراسات والتدعيم بالأرقام، وصولًا إلى إحضار المركبات ووضعها في الخدمة تنفيذًا لهذه الخطة التي تلبّي التصوّر المرصود. في تسيير هذه الحافلات، تمّ العمل بالعكس تمامًا ممّا جعل منها مجرّد مركبات بلا دور واضح بدل أن تكون جزءًا من خطّة متكاملة، مما شكّل فرصة ضائعة للاستفادة منها بشكلٍ أكبر كحجر أساس لنظام نقل مشترك أفضل.
غياب الدراسات يبرز أيضًا في التعرفة (حُددت بـ 70 ألف ل.ل.)، من دون توضيح كيفية احتسابها أو مرونتها في حال تغيّر سعر الصرف أو زيادة (أو انخفاض) الطلب على الحافلات، أو كيفيّة تحديد الحصة التجاريّة منها أو تلك المخصّصة للتشغيل. هذا الأمر يفضح أيضًا نظرة السلطة لقطاع النقل، حيث يتمّ التعامل معه كخدمة تجارية تهدف إلى تحقيق أرباح مادية، وليس كخدمة عامّة، وهو خطأ مبدئيّ جسيم. في الواقع، أي خدمة نقل مشترك حقيقية تكون ماديًا خاسرة، حيث أن واردات البطاقات المباعة لا يمكن أن تغطّي تكاليف التشغيل والصيانة والتطوير مع الحفاظ على أسعار معقولة. لذا، ما يحدث عادة هو وضع سقف لسعر البطاقة يغطي جزءًا من التكاليف، على أن تُغطّى بقية التكاليف بدعم من المال العام، وقد تصل في بعض الأحيان إلى نصف سعر البطاقة أو أكثر لبعض الفئات. النقل المشترك هو خدمة عامة غير ربحية مباشرة، بل تكون أرباحه عبارة عن مكاسب اقتصادية واجتماعية وعمرانية. في لبنان، يحدث العكس تمامًا، حيث تم تلزيم الحافلات بشرط تقديم العرض الأعلى لمشاركة جزء من “أرباحه” (حوالي 10%) مع الدولة، وهذا خطأ بنيوي يُظهر النظرة المغلوطة للنقل المشترك.
أيضًا، بالحديث عن التعرفة، كان مُلفتًا أنها موحّدة للجميع، ممّا يفتقر إلى العدالة الاجتماعية. كان من الأجدى تحديد تعرفة بحسب الفئات الاجتماعية. فالفئات غير المنتجة (وتحديدًا الطلاب) وذوو الدخل المحدود مثلًا، وهم الفئة الأساسية التي تستخدم النقل المشترك والتي ظلت متمسكة به أكثر من غيرها خلال الأزمة[2]، ليس لديهم نفس القدرة الشرائية للفئات المنتجة. لذلك، كان من المناسب تخصيصهم بتعرفة تراعي ظروفهم المادية. ملاحظة أخرى تتعلق بكيفية الاستفادة من آلية الدفع المسبق لزيادة ولاء المستخدمين للخدمة. على سبيل المثال، كان من الممكن تخصيص تعرفة خاصة بناءً على عدد البطاقات المشتراة، لترغيب المستخدمين في إعادة استخدام الخدمة بشكل متكرر.
مقاربة الشق المادي تنسحب أيضًا على الشق التقني. هذا المشروع يُظهر مرة أخرى أن نظرة القائمين على قطاع النقل المشترك تنحصر في كونه مجرّد مركبات وتعرفة ومسارات عامة (وغالبًا بلا مواقف أو مواقيت عمل ومرور محددة مسبقًا). إذًا يتم حصره في الشق التقني من دون مقاربة الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي يجب أن يتشكّل القطاع ويتحدد شكل خدماته بناءً عليها. تفسير ذلك بسيط: مقاربة موضوع النقل بعيدًا عن الشق التقنيّ، السهل نسبيًا، يستلزم من القائمين على القطاع اتّخاذ خيارات محدّدة وواضحة على أصعدةٍ معقّدة ومتشعّبة عدة. كما يحتّم عليهم إيجاد روابط بين قطاع النقل وباقي القطاعات، مثل السكن. هذا ليس بالأمر السهل عادةً، ولكنه يصبح مستحيلًا في ظلّ دولة متحلّلة قوامها نظام طائفي يعجز بنيويًا عن القيام بذلك. مثال على ذلك، يتطلب من القائمين على قطاع النقل اتخاذ الخيار أن يكون أي مشروع نقل في خدمة فئة اجتماعية أو منطقة جغرافية دون أخرى، وبالتالي عليهم تحديد تعرفة ومسارات ومواقيت عمل تناسب الفئة المختارة. هذا ليس خيارًا سهلاً حيث يتطلّب تبرير ذلك بالأرقام والدّلائل، مما قد يسبّب توترات اجتماعية أو اقتصادية أو مناطقية أو حتى طائفية. هذا ليس حكرًا على لبنان، وغالبًا ما نشاهد حالاتٍ مماثلة عند وضع أيّ مشروع نقل في الخدمة، لكن ما يميّز لبنان هو أن السلطة لا تتخذ خيارات حاسمة. إما أنها تنسحب من المشروع تمامًا، أو تبحث عن إرضاء الجميع في نفس الوقت خوفًا من ردّات الفعل ولتأمين التوازن على جميع الأصعدة. هذا الأمر شبه مستحيل، بل وخاطئ تمامًا، في الحوكمة الرشيدة لقطاع النقل.
أيضًا، حصر النقل المشترك بالشقّ التقنيّ يؤدّي إلى تضخيم أيّ مشروع متعلّق بهذا القطاع وإظهاره كحلّ سحريّ، كما رغب القيّمون على القطاع اظهار المشروع الحالي. 95 حافلة هو عدد بسيط جدًا ليتيح لنا الحديث عن خطة نقل وطنية أو حتى على صعيد مدينة. ومع ذلك، نرى أن القائمين على المشروع استرسلوا في الشرح بأن هذا المشروع هو لكل لبنان، مع رغبتهم بربط جميع المناطق ببعضها عبره. لكن الواقع غير التمنيات، فـ 95 حافلة، مع ضرورة تخصيص 10% منها كاحتياطي، بالكاد تكفي لتأمين خدمة مستمرة وكفؤة على خطين أو ثلاثة في المناطق الحضرية. أيضًا، هل تأكد المعنيون من قدرة هذه الباصات المستعملة والقريبة من نهاية عمرها التقني على إجراء رحلات على مسافات طويلة او المرتفعات وهي التي كانت تعمل لعدة سنوات في شوارع باريس إذًا مرصودة بطبيعتها للتنقلات الحضرية فقط ؟ بالتالي، إذا تم تنفيذ المشروع كما يرغب القائمون عليه، أي عبر خطوط حضرية وأخرى لربط مداخل بيروت بالمدن، فهذا يعني أن عدد الحافلات على كل خط سيكون محدودًا، وبالتالي سيكون ترددها قليلًا وسرعتها محدودة. وهذا سيؤدّي إلى فقدانها بسهولة ميّزاتها التنافسية مع وسائل النقل الأخرى، وخاصة السيارات الخاصة. هذه الميّزات التفاضليّة مهدّدة أيضًا بسبب غياب بعض الخصائص الأساسية، مثل:
-الحارات المخصصة للنقل المشترك حصريًا: أفضل ميزة للسيارة على سواها من وسائل النقل هي السرعة في التنقل، ولذا لكي تشكل خدمات النقل المشترك منافسًا حقيقيًا لها وتستجلب الركاب، يجب العمل على سرعة مركباته. الدفع الإلكتروني ومكننة فتح وإغلاق الأبواب ميزتان تساعدان في زيادة الكفاءة، لكنهما غير كافيتين لوحدهما. ينقص المشروع إيجاد حارات محددة من الطريق تكون مخصصة حصريًا للحافلات (والنقل المشترك الخاص)، بما يسمح لهذه الوسيلة بالتنقل بسرعة أكبر دون أن تضطرّ لدفع الثمن في زحمة السير التي تسبّبها السيارات. كما أنها تساهم في استرجاع أجزاء من الحيز العام من السيارات. اختيار هذه الحارات يجب أن يتناسب مع اختيار المسارات، وهو ما لا يمكن أن يتم دون دراسات كافية بهذا الخصوص، وهي غائبة تمامًا حتى اليوم.
-تكامل النقل المشترك مع بعضه ومع بقيّة الوسائل: يغيب تمامًا الحديث في لبنان عن التكامل بين وسائل النقل. بدلاً من القيام بكامل الرحلة بوسيلة واحدة، يستطيع الشخص دمج وسيلتيْن أو أكثر، وهذا يصب في الهدف الأساسي: تقليل الاعتماد على السيارة ودعم بدائلها. النقل المشترك يشكّل فرصة ذهبيّة لهذا التكامل، حيث أنّ الوصول إليه يحتّم استخدام وسيلة واحدة على الأقل (غالبًا المشي). ولكن، لكي نزيد رغبة الأفراد في استخدام النقل المشترك، يجب تعزيز هذا التكامل عبر العديد من الإجراءات، مثلا: تحسين البنى التحتية المخصصة للمشاة في محيط المواقف، تقليل المسافة اليها وبينها، اختيار المواقف بعناية لتخدم نقاطا مرسلة ومستقبلة لتدفقات النقل (مناطق مزدحمة، مؤسسات تعليمية أو ترفيهية، تقاطعات رئيسية،…)، أن تكون المواقف والمركبات ملائمة للجميع ومجهزة قدر الإمكان، خاصة لذوي الهمم، العجزة، وعربات الأطفال،… إيجاد مواقف لركن السيارات بالقرب من نقاط انطلاق ووصول الحافلات المخصصة للرحلات بين المدن،…
-أما الأهم والذي يشكل نقطة إشكالية كبيرة، فهو التكامل بين باصات النقل العام الرسمي والنقل العام الخاص[3]. لا يمكن أبدا تطوير قطاع النقل في لبنان من دون تطوير وتنظيم قطاع النقل المشترك الشعبي، قبل دمجه مع أي نظام نقل مشترك جديد مقترح. على الرغم من أن هذا مثبت علميًا وتجريبيًا في عشرات المدن حول العالم، فإن في لبنان تغيب هذه الفكرة تماما، ويتمّ التعامل مع النقل المشترك الشعبي بشكل منفصل تماما عن أي اقتراح للنقل المشترك الرسمي. بل أكثر من ذلك، أصبحت النظرة إلى النقل المشترك الشعبي على أنه مشكلة وعبء، مع غياب النية الحقيقية لتطوير القطاع أو ضعف المعرفة بهذا الخصوص. غالبا ما يتم تجاهله والهروب من المسؤوليات تجاهه. الأمثلة كثيرة على ذلك، من غياب الأطر التنظيمية لقطاع النقل المشترك الشعبي، وعدم إقرار تعرفة رسمية لفترة تزيد عن السنتين، إلى التسيب فيما يتعلق بالأسطول غير الشرعي، وحتى حصر الحديث حوله مع “أباطرة” مثل بسام طليس وبشارة الأسمر. على عكس هذا المنهج، الواجب فعله هو التكامل الحقيقي بين النقل المشترك الشعبي والرسمي، بحيث يضمن، على سبيل المثال، خطوط رفد للنقل الرسمي، والذي يعمل على خطوط رئيسية باستخدام وسائل نقل كبيرة نسبيا، فيما يؤمن النقل المشترك الشعبي الأحياء الأصغر بمركبات صغيرة[4]. ما يلفت الانتباه هو أن الوزير حمية ذكر في تغريدة له أنهم لم يضعوا هذه الحافلات ولم يحددوا تعرفة النقل فيها بطريقة اعتباطية تقطع أرزاق أحد، بل أرادوها متكاملة مع حافلات النقل التابعة للقطاع الخاص الشرعي. ولكنه لم يذكر أي تفاصيل عن كيفية هذا التكامل، الذي يبدو أنه يقتصر على الكلام والوعود من دون وجود خطة واضحة على الأرض للتنفيذ. جاء هذا الكلام بعد التعرّض لباصات النقل المشترك للتكسير في منطقة الدورة غداة إعلان تسيير المرحلة الأولى منها. بالطبع، يجب محاسبة كلّ فرد أو مجموعة اعتدتْ على الحافلات، ولكن يجب أن نفهم أنّ المشكلة تتجاوز هذه الحوادث الفردية. القضيّة هنا ليست محصورة ببعض الأفراد الذين تأثروا بوجهة نظرهم من تسيير الحافلات ومنافستها لهم، والذين قاموا بردّ فعل عنيف. المشكلة تتمثل في الإهمال الشامل للنقل المشترك الشعبي، وغياب أي إطار تنظيمي له، بالإضافة إلى سيطرة الأحزاب الطائفية والنقابات المتواطئة على هذا القطاع. تسليط الضوء على سلوك بعض الأفراد كبلطجية ومجرمين هو تصوير غير دقيق تمامًا. بالرغم من أن بعض التصرفات قد تكون خارجة عن الحدّ، إلا أن هذا لا يبرّر التهمة العامة بأن جميع السائقين والمشغلين في النقل المشترك عنفيون. هذا ناتج طبيعيّ من غياب أي دور حقيقي للدولة في مراقبة وتنظيم هذا القطاع. علاوة على ذلك، فإنّ تصوير المشكلة كما لو أن العائق الوحيد أمام تطوير النقل المشترك في لبنان هو وجود هذه العصابات هو تصوير مضلّل يسعى إلى تبرير الفشل السياسي في إدارة هذا القطاع. بالرغم من أن وجود هذه المشكلة قد يكون سببًا، إلا أنه بالتأكيد ليس السبب الرئيسي. هناك أسباب أخرى أكثر أهمية تتعلق بالسياسات السائدة والمقاربات الفاشلة لإدارة النقل كما بشبكة المصالح المتشعبة والعميقة. في النهاية، وجود “بلطجية” في النقل المشترك الشعبي وشعور المشغّلين بالإهمال والخوف من المنافسة ليس سببًا لفشل خطط تطوير النقل المشترك، بل هو نتيجة للإهمال طويل الأمد للقطاع من قبل السلطات المعنية.
قبل الختام، من الضروري لفت الانتباه إلى أن هذه الخطة المستجدّة تأتي بعد ثلاث سنوات تقريبًا على تشكيل الحكومة الحالية، وأكثر من سنتين على استلام الباصات الفرنسية (أيار 2022)، وسنة ونصف على فشل أول محاولة تسيير لها (كانون الأول 2022). وبالرغم من أن كل هذه المدة والمال المتوفر خلالها بعكس ما يرغب البعض بتسويقه، كانا أكثر من كافيين لحلّ معظم النقاط السلبية المذكورة أعلاه إلّا أن القيّمين على القطاع ارتأوا بدل ذلك اختيار السبيل الأسهل وهو الاستمرار بإهدار الوقت وإعادة نفس التجارب السابقة مع الأمل بأن تأتي النتائج مختلفة. لذا فإن اليوم على الرغم من الجهود الجديدة لإحياء النقل المشترك الرسمي، كل الأدلة تشير إلى أن النتائج قد لا تكون مختلفة عن السابق، مما يجعل السلطات الحاليّة تفشل في استغلال فرصة جديدة للنهوض بالقطاع. الفارق الكبير هذه المرة هو أنّنا، بالإضافة إلى أزمة النقل البنيوية التي يُعاني منها لبنان، نعيش أزمة اقتصادية واجتماعية مستمرّة للعامّ الخامس، مما يُضاعف الحاجة إلى حلول جذرية وحقيقيّة لا إلى فقاعات وبيع أوهام، كما في حال خطة النقل المشترك الأخيرة والتي لا تبدو سوى أنها ستكون تضييع لفرصة جديدة بدل أن تكون حجر أساس.
[1] السلطة تخاف من الأرقام
[2] Ali El Zein, Guillaume Carrouet. Evolution des pratiques de mobilité au Liban en contexte de crise
multidimensionnelle : premiers résultats d’une enquête exploratoire. Note 1 : les transports en com-
mun. [Rapport de recherche] 1, Laboratoire aménagement économie transports (LAET); ART-Dev –
Acteurs, Ressources et Territoires dans le Développement. 2022, pp.22. halshs-0357668
[3] تم التطرق لهذا الأمر في سلسلة المقالات التي تناولت موضوع النقل المشترك الشعبي ومشاكله، والحلول الممكنة:النقل المشترك غير الرسمي في لبنان : ضحية أخرى لتدمير قطاع النقل
Comments