top of page
Writer's picture Ali El Zein - علي الزين

كارتيلات، ومصارف، وسيارات: نهج سياسي يدهس النقل العامّ في لبنان منذ التسعينات

مقابلة مع "مصدر عام" في 22/10/2021 طوابير الذلّ الّتي نشهدها اليوم على معظم المحطّات هي من أبرز مظاهر الحرب الطبقيّة الشرسة التي تقودها المنظومة الحاكمة بجناحها السياسي والأمني، جناحها المصرفي والمالي، وبجناح القطاعات الخاصة المتواطئة مع السياسيين. اضطرّ سكان لبنان مع بداية العام الحالي إلى الوقوف بسياراتهم لساعاتٍ طويلة قرب محطّات المحروقات ليتمكنوا في النهاية من تعبئة جزء من خزّاناتهم فقط. لكن ما تمّ تصنيفه بـ"أزمة محروقات" في الإعلام السائد والخطاب العام كان في الحقيقة أعمق من ذلك بكثير. فمنذ دخول لبنان حقبة الرأسمالية النيوليبرالية — الفكر المبني على "تحرير الاقتصاد" وتدمير القطاع العام لصالح الشركات الكبرى والقطاعات المالية — شهد لبنان سياسات ممنهجة لتدمير كل ما تبقى من وسائل النقل العام. في إطار هذا المشهد، ارتفعت أسعار البنزين هذا الأسبوع بنسبة ٢٥ في المئة حتّى أصبح سعر صفيحة البنزين ٣٠٢،٧٠٠ ليرة لبنانيّة (أي حوالي نصف الحد الأدنى الشهري للأجور)، أسعار الديزل بنسبة ١٥ في المئة منذ آخر زيادة في الأسعار في الثّامن من تشرين الأوّل من هذا العامّ، في حين شهدت مناطق عدّة احتجاجات وقطع طرقات من قبل السائقين العموميين. في سياق عملنا على بحثٍ مطوّل عن وضع النقل العامّ منذ نهاية الحرب الأهليّة اللبنانيّة، وفي ذروة ما يسمى بـ "أزمة المحروقات،" أجرينا مقابلة مع الدكتور علي الزين، وهو باحث في مجال النقل، ناقشنا فيها سياسات النقل العام وأهميتها اليوم. علي الزين حاصل على شهادة الدكتوراه في التنظيم المدني من الجامعة الأميركية في بيروت، ويعمل حالياً على بحثين حول تأثير الأزمات الصحية والاقتصاديّة على عادات التنقّل في فرنسا ولبنان في جامعة ليون في فرنسا. هل من الممكن أن تقدم لنا نبذة تاريخية سريعة عن قطاع النقل وأهمية النقل العام تحديداً؟ هناك مدرستان اليوم في قطاع النقل. إحداهما هي شكل النّظام الّذي نما في أميركا والذي يقوم على السيّارة والحريّة الفرديّة. اعتُمد هذا النظام في ثلاثينيّات القرن العشرين تقريباً، عندما بدأت السيارة بالانتشار، وصولاً للسبعينيّات والثمانينيّات. كانت الدول المنتمية للجزء الأغنى من الكرة الأرضية — ولبنان كان يعتبر نفسه من هذا الجزء — تعمل على أن تكون السيّارة أساس النقل لأنها ظهرت وكأنها تنقل البشر على مسافاتٍ طويلة، بشكلٍ أسرع وأكثر إراحة، وبدأ شكل المدن بالتغيّر. كانت فكرة السيارة مغرية، وانطلقت انطلاقة "صاروخيّة"، ثمّ بدأ التنبّه إلى ثلاث مشاكل كبيرة: التلوّث الّذي ازداد كثيراً، والاعتماد على المحروقات الّذي أصبح واضحاً مع أزمة الفيول عام ١٩٧٣، وأخيراً ازدياد التمويل على النقل بالسيارة (طرقات وخدمات وغيرها) وعدم القدرة على الاستثمار في أماكنٍ أخرى، "لاحظوا إنو في شي مش زابط". في منتصف سبعينيّات القرن الماضي تقريباً، بدأت السيارة تأخذ منحى تنازليا في العالم، وكلّ عشر سنوات كانت تتدنى أهميتها أكثر فأكثر إلى أن وصلنا، في آخر عشر سنوات، إلى انقلاب هذا المنحى تماماً، حيث بدأت الدول تفكّر بكيفيّة الخروج من الاعتماد على السيّارة بشكلٍ تامّ. هنا بدأت المدرسة الثانية في قطاع النقل، إذ أننا نشهد اليوم عودة إلى القرن التاسع عشر حيث كان النقل العامّ هو الأساس. للأسف هناك انطباع عامّ في المجتمع في لبنان بأنّ النقل العامّ يخدم الفقراء فقط وبالتّالي فنحن اليوم "مضطرّون للنهوض به". السياق الذي يتمّ تداول الموضوع فيه خاطئ لكن نتيجته صحيحة وصحية. يعود النقل العام إلى الساحة اللبنانيّة اليوم على أنّه وسيلة بديلة للسيارة. بمعنى أنه يستبدلها تماماً. إذا خسرنا السيارة بسبب الأزمة فنحن مضطرون أن ننتقل للنقل العامّ. إلّا أنّ هذا المفهوم خاطئ، فالنقل العام يجب أن يكون ركيزة النقل في الدولة وليس مجرّد بديل أو خيار آخر عن السيارة. مشكلة غياب النقل العام هي أنّ السيارة هيمنت، وأهميته الأساسيّة هي تخفيف استخدام السيارة ما يعني تخفيف التكاليف على الأفراد، والمجتمع، والدولة، لنصل بالتّالي الى ما نسميه "النقل المستدام". من ضمن الأساليب الّتي استخدمت لضرب قطاع النقل العامّ في لبنان كارتيلات السيارات، والمحروقات، والزفت، وشركات التأمين، والعقارات وغيرها. لماذا ليس لدينا نظام نقل عامّ متكامل في لبنان برأيك؟ نظام النقل في لبنان اعتمد على السيّارة لأنّها أكثر إراحة وإرباحاً للسلطة السياسيّة تحديداً. السيارة أكثر إراحة للاستخدام، حيث أنّ دور الدولة معها يقتصر على شقّ الطرقات فقط وينتهي عند ذلك، فلا تتطرّق إلى خدماتٍ أخرى، حيث يصبح شقّ الطرقات، على صعوبته، أسهل من إقامة نظام كامل للنقل العام. ثم يأتي دورنا كأفراد و"كلّ مين بدبّر حالو". بالنسبة للربح، فإنّ الدولة، أو السلطة السياسيّة في حالة لبنان، تستفيد مباشرةً من خلال الكارتيلات حيث لا يخفى على أحد أن كلّاً من هذه الكارتيلات يملكه أحدٌ ما من السلطة. السيارات تلغي دور الدولة وتفتح المجال للفساد.

أمّا المواطن، فمن اللحظة الأولى التي يفكّر فيها بشراء سيّارة فهو بالتأكيد ينفّع أحدا ما في السلطة. هنا نبدأ بالكارتيلات. أولاً مستوردو السيارات: هؤلاء يتهرّبون من دفع الضرائب ومن الجمارك بما أنّهم تابعون للسلطة، أكانوا أفراداً أو شركات، وبالتّالي لا ضوابط عليهم. ثانياً تسجيل السيارة: بالنظام القائم حالياً، الضرائب تصبح مجرّد تنفيعات لهذا أو ذاك من السلطة وبالتّالي ضرائب الرسوم، والتأمين، والميكانيك وغيرها تذهب لهؤلاء. ثالثاً خروج السيارة إلى المعارض أو الشركات: يذهب المواطن ليشتري سيارة، فإذا دفع المبلغ نقداً ومباشرةً تعود الأرباح مباشرةً للشركة، وإذا دفع من خلال شيك مصرفي أو قرض، تعود الأرباح للمصارف، التي هي بدورها جزء لا يتجزأ من السلطة. رابعاً تسجيل السيارة واستهلاكها: يدفع المواطن رسوم تسجيلها، كما يدفع لشركات التأمين، من ثمّ صيانتها وتصليحها (شراء وبيع قطع للسيارة)، وشراء المحروقات لتسييرها وبالتّالي تنفيع كارتيلات المحروقات، واستهلاك الطرقات وبالتّالي تنفيع كارتيلات الزفت. هذه إحدى أسباب هجرة جهاد العرب "فعلاً ما بقى عندو شغل هون لأن الدولة أفلست". وبالمقابل هناك كارتيلات العقارات والمضاربين العقاريين والمحلّات الّتي تفتح على جوانب الطرقات لتعلو قيمتها، وصولاً لبيع السيارة أو التخلّص منها تماماً.

يتمّ الاعتماد على التكثيف المدني وتكديس البيوت والعمارات في المدينة في جميع بلدان العالم، أمّا في لبنان فهناك التمدد المدني وهذا أيضاً كارتيل يربح من الاعتماد على السيارة. تجّار العقارات المستفيدون من شقّ الطرقات، أصبحوا يكدّسون العمارات على امتدادٍ جغرافيّ نحن لسنا بحاجةٍ إليه فعلياً. في حالة التمدد العمراني، يصبح النقل المشترك بلا فائدة، حيث أنّه لن يستطيع إيصال كلّ فردٍ إلى منزله إلّا ضمن إطار المدينة نفسها. الشكل الحالي لقطاع النقل في لبنان هو عبارة عن شبكة محبوكة تشبّه بالأخطبوط: كلّ يد تنفّع الأخرى، وبالنّهاية رأسٌ واحد يتحكّم بهذه الأيدي وهي ثقافة السيارة الّتي استوردناها منذ الثلاثينات.

تجذّرت هذه الثقافة في لبنان منذ الخمسينيات عندما بدأت السريّة المصرفيّة وانفصلنا بالكامل عن سوريا وازداد الاستهلاك، وبدأت الأموال الخارجيّة، والخليجيّة تحديداً، بالتدفّق، وتطوّرت المدن وغيرها. أصبحت السيّارة جزءاُ لا يتجزأ من حياتنا اليوميّة في حين أنّ السيارة في جميع البلدان حولنا كانت خياراً للمواطن. ففي لبنان، كان المواطن الّذي يتقاضى راتباً لا يزيد عن مئتيّ ليرة يشتري سيّارة أميريكيّة جديدة ومكلفة. صدرت دراسة عام ١٩٧٠ قائلةً أنّ عدد من يتملّكون السيارات في لبنان نسبةً لعدد السكّان يشبه كثيراً الوضع في أوروبا. لم نكن حينها نعيش باقتصادٍ منتجٍ بل باقتصادٍ سياحيٍ لكن وجود الرساميل العربية ساهم في اعتبارنا "أغنياء". استمرّت هذه الحالة حتّى عام ١٩٧٥. خلال فترة الحرب الأهلية اللبنانيّة، فقدنا جميع المعلومات المتعلّقة بأعداد السيارات، وأنواعها، وعدد السيارات المدمرة وغيرها. عندما انتهت الحرب، وفي التسعينات، كشفت دراسة أخرى أنّ عدد السيارات ارتفع بشكلٍ هائلٍ عن عامّ ١٩٧٥. عاد رفيق الحريري بعدها مباشرة إلى لبنان وأتى معه النظام الرافض للنقل المشترك، والمشجّع على الاستهلاك، كما جاء شقّ الطرقات، وجاءت تسهيلات المصارف وغيرها لتتجذّر بالتّالي ثقافة السيارة. حينها دخلنا مجدداً في دوامة الخمسينيات والستينيات، لكن هذه المرّة لم نكن نصرف أموال الرساميل العربيّة بل أموالنا الخاصّة، وأصبحنا نهدي البسكليت للأولاد الصغار على أنه لعبة، ونمشي عند الضرورة الملحّة فقط.

ازدادت قروض شراء السيارات في آخر ١٠ أو ١٥ سنة، كما أصبحنا نرى كمّاً هائلا من الإعلانات المستمرّة لهذه القروض. هل المصارف أجبرت وجود السيارة؟

كلمة "أجبرت" هي وصف دقيق جداً. السيّارة أُدخلت بالإكراه. المصرف جزء أساسي من المنظومة الماليّة في لبنان، وعندما لم يؤمّن أي بديل للنقل غير السيارة ويضع المواطن أمام نظام نقل يعتمد تماماً على السيارة لا يعود شراؤها اختياريّا . المصرف عنصر أساسي في هذا "الإجبار". صحيح أنّ القرض في لبنان يشترط وجود أوراق كثيرة وشروطه تبدو صعبةً جداً إلّا أن المصرف لا يدقق فعلياً بالأوراق. مثلاً: يقدّم شخص بعمر ١٨ سنة طلبا لشراء سيّارة، أوراقه تدلّ على أنّه موظّف في المعلوماتيّة، ومعاشه ثلاثة آلاف دولار. كلّ ما هو مطلوب هو الحصول على ورقة مختومة من صاحب العمل ليمرّ القرض من دون أي تدقيق. علاوةً على ذلك كان المصرف يدفع عمولة لتجّار السيارات المستعملة عندما كان الزبون يشتري منهم السيارة من خلال قرض من المصرف. كان التّاجر يحصل على عمولة تصل إلى ٤% إضافةً إلى الربح الّذي كان يحصّله من بيع السيارة. وإذا استطاع/ت موظّف/ة المصرف إقناع الزبون/ة بتأمين السيّارة الجديدة يحصل المصرف بدوره على عمولة وبالتّالي تخلص الصفقة بربح التاجر والمصرف وشركة التأمين بطبيعة الحال.


نسمع مصطلحين مختلفتين للإشارة إلى النقل العامّ وهما: النقل العامّ والنقل المشترك. هل هناك فرق بين هاتين العبارتين؟

ليس هناك فرق حقيقي بين النقل العامّ والنقل المشترك. هذه مغالطة في لبنان. الفرق بين الإثنين من حيث التسمية فقط. النقل العامّ هو مجموع المركبات والنظام المسيّر من قبل الدولة أمّا النقل المشترك فهو من قبل القطاع الخاصّ. عندما يكون هناك نظام كامل، لا يتمّ التمييز فعلياً بين الاثنين. أمّا بالنسبة للمستخدم، فلا يهمّه حقيقةً من يسيّر هذه المركبات، لأنّ هذا النظام يقع في النهاية تحت مظلّة واحدة هي الدولة. في حال عدم قدرة الدولة على تشغيل جميع الخطوط، تلجأ للقطاع الخاص وتوكله بتشغيلها.

تستخدم هذه المصطلحات في مجتمعنا عن براءة وبحكم الاعتياد بسبب السلطة السياسيّة، لكن استخدامها من قبل السلطة ليس عن جهلٍ لمعناها أبداً. عندما يقول أفراد من السلطة إنّ "النقل المشترك ضعيف" فهم يلقون اللوم على الأفراد العاملين في هذا القطاع، أي السائقين، وتتنصّل السلطة بذلك من مسؤولياتها، وكأنّ هؤلاء هم الّذين لا يقدمون هذه الخدمة كما يجب. النقل العامّ ليس قطاعاً "مربحاً" للدولة بشكلٍ عامّ، بل على العكس، أحياناً تخسر الدولة بهذا القطاع وتضطرّ أن تغذّيه من خزينتها إلّا أنّها تحصد أرباحه المادية وغير المادّية في قطاعاتٍ أخرى: التنمية الاقتصادية، وتخفيف التلوث وغيرها. الدولة تضع كلفة مباشرة وتربح أرباحاً غير مباشرة في قطاع النقل العامّ.

يكفي وجود مركبة واحدة فقط يشترك عدة أشخاص بالتنقل فيها ليصبح النقل نقلا مشتركا. هذه الخدمة بحدّ ذاتها ضعيفة جداً في لبنان إن لم نقل إنّها مفقودة تماماً. لدينا نقل مشترك، إلّا أنّ المشكلة تكمن في الخدمة وهيكليّة القطاع المفككة والضعيفة جداً. لهذا السبب لا يمكننا أن نعتبر أنّه غير موجود. تملك الدولة اللبنانيّة اليوم ٣٩ باصاً فقط، تحطّم جزء كبير منها بفعل انفجار بيروت، والجزء الآخر خارج عن الخدمة لأنّها تحتاج للصيانة والدولة لا تمضي اعتمادات حالياً للصيانة. هذا يعني أنّه لا يوجد اليوم مركبة واحدة فقط تابعة للدولة تعمل في خدمة نقل الركّاب، وبالتالي أصبحت هذه الخدمة تتكّل على القطاع الخاصّ. هي موجودة إذن لكن ليس بالمستوى المطلوب.

هل يمكننا أن نتصوّر شكلاً بديلأ لنظام النقل العامّ اليوم في لبنان؟

نسمع اليوم في لبنان حديثاً عن شراء باصاتٍ جديدة. لا أعلم إن كان هذا الخبر يوزّع عن جهل أم عن خبثٍ من السلطة، إلّا أنّ الموضوع خطير جداً. كأنّ النقل العامّ كلّه يمكن اختصاره بمركباتٍ إضافيّة والسلطة تتعامل مع الموضوع على أساس أنّه طالما لدينا مركبات جديدة، عملنا ينتهي هنا. هذا المفهوم ليس فقط خاطئ بل هو جريمة. المشكلة في قطاع النقل هي أنّه قطاع مرتبط بجميع القطاعات الأخرى ولا يعمل بشكلٍ منفصلٍ عنها. هذا نظام يشتبك مع جميع الأنظمة الأخرى: العمرانيّة، والمدنيّة، والصحيّة، والتعليميّة. لا يمكن أن نجد بديلاً للقطاع وحده من دون إيجاد بدائل وتنظيم للقطاعات الأخرى إلّا إذا اعتبرنا أنّ كلّ القطاعات منظّمة وجاهزة "وناقصنا بس النقل"، والوضع ليس كذلك .

لا يمكننا واقعيّا أن نقوم بأي خطوة إضافية من دون وجود خطّة كاملة تتضمّن أيضاً شكل نظام النقل الّذي نطمح له. هذه الخطّة، كي تكون خطّة متكاملة على صعيد الوطن، ومتشابكة علينا أوّلاً أن نضع لها أهدافاً سياسيّة واضحة كما علينا دراسة جميع المناطق اللبنانيّة دون استثناء، فلا فائدة لأيّ مركبة من دون خطّة وهذا ما حصل في دول الخليج: هذه الدول تستثمر اليوم أموالاً طائلة في قطاع النقل ولا يزال النقل العامّ الخيار الأخير للأفراد عندما يخرجون. ليس المهمّ الاستثمار بحدّ ذاته بل الإطار الّذي يأتي فيه هذا الاستثمار. في المقابل، هناك بعض الدول، خصوصاً الأفريقيّة والشرق آسيويّة ودول أميركا الجنوبيّة، استثمرت بالنقل المشترك بأقلّ ما يمكن، وأدّى ذلك إلى تجارب ناجحة جداً انتشرت اليوم ونقلت لدولٍ أغنى. وضع هذه الدول كان يشبه وضع لبنان: باصات، وفانات، وسرفيسات…إلخ، تمّ فقط تنظيمها ضمن إطار خطّة كاملة.

يفترض أولاً البدء بدراسة لفهم نوع المركبات الّتي نحتاج إليها بحسب شكل نظام النقل. مثلاً إذا سيّر أجدد قطار في العالم من بيروت إلى طرابلس، في حين أن الضواحي وبلدات الشمال تتمدد، كيف يصل المواطن إلى عكّار مثلاً؟ أو إلى زغرتا؟ إذا كان المواطن مضطرا إلى السكن بعيداً عن العاصمة، ولا شبكة داخليّة تربط المناطق ببعضها ولا توزّع للخدمات الرئيسيّة، كيف يستفيد هذا المواطن من قطار يصل بيروت بالشّام فقط؟ عندما تتطوّر المدن بشكلٍ كبيرٍ جداً مقابل ضعف هائل في الأطراف يصبح النقل المشترك عبارة عن نظام فاشل آخر. المهمّ أيضاً العمل على تفعيل تنظيم القطاعات الأخرى التي تشتبك مع النقل بالإضافة إلى وضع خطّة تنظيم أراض. عام ٢٠٠٩ أقرّت خطّة لتنظيم الأراضي وضعت عام ٢٠٠٥ إلّا أنّها لم تبصر النور. هذه الخطّة كانت تعمل على صعيد لبنان ككلّ، كما حددت المناطق: المناطق الصناعيّة، والسكنية، والسياحية، والتعليمية. بعد تنظيم الأرض، والسكّان، والاقتصاد بحسب التوجّه السياسي والاقتصادي للبلد، حينها يمكن العمل على تركيب خطّة متكاملة وواضحة للنقل العامّ.

ما هي السياسات الّتي يمكن أن تلغي ثقافة السيارة؟

عندما بدأ الباحثون في قطاع النقل مؤخراً بالعمل على إزالة السيارة، أسسوا لفكرة "الدفع". كلّ من يملك سيارة ستزيد عليه الأعباء تلقائياً: عند الخروج من المدينة يدفع المواطن بدل خروج ودخول، ويستخدم المواقف المدفوعة، ويدفع ضريبة إضافيّة على المحروقات وغيرها. لكن هذه السياسة لم تنفع لأنّ مفعولها يبقى محدوداً جداً. تصبح هذه الأمور جزءا من مصروف امتلاك سيّارة ولا تصيب إلّا الفئات الفقيرة جداً. فبدأ التوجّه نحو سياسات جذريّة وصارمة أكثر نشهد عليها اليوم في باريس ومدريد.

في لبنان السياسة السائدة تجذّر مفهوم السيارة وليس العكس. فمجرّد وجود مواقف للسيارات يعني التثبيت لوجود السيارة واستخدامها وليس العكس: حتّى لو كان الموقف مدفوعا فقد جرى تأمين مكان لركن السيارة. علينا إذاً أوّلا إلغاء المواقف كلياً وتماماً. ثانياً: التخفيف من التسويق للسيارة. نظام الاعتماد على السيارة يعمل بحسب ثلاثة أسسٍ. واحدة منها تسمّى "خدمات لصالح السيارة"، وهذا يعني جميع الخدمات الّتي تغذّي نظام السيارة وأوّلها الطرقات. طالما أن الدولة تقوم بشقّ الطرقات وتجهيز بنى تحتية (كلّفت الملايين)، ستبقى السيارة الوسيلة الأولى وكلّ طريق جديدة هي تسهيل للسيارة وليس العكس. حلّ أزمة السير ليس بشق طرقاتٍ إضافيّة. وكأننا نقول للمواطن "إذا كنت تبقى ساعة بزحمة السير، سأضيف لك طريقا جديدة وتبقى نصف ساعة"، وهذا ليس حلاً وأكبر دليل هو مجموع الأنفاق الّتي شقّت في بيروت. ثالثاً: إيقاف تامّ للاستثمار بالسيارات. بدل دفع الملايين من أجل شقّ الطرقات، يمكننا دفع نصفهم لنقوم بشئ يسمّى: "طرق للجميع". هذا يعني تقسيم خطوط الطرقات بحيث أن تخرج عن حصريتها للسيارة: في الطريق الواحدة يخصص خطّ للسيارة، وخطّ آخر للباص، وخطّ ثالث نوسّع من خلاله الرصيف ويمكن إضافة خطّ على الرصيف للدراجات الهوائيّة بالإضافة للمشاة. عندها يلاحظ المواطن الّذي يقود سيّارته على خطّه أنّ الخطّ المخصص للباصات بجانبه "مفتوح" ولا يحقّ له استخدامه في حين أنّ خطّه مليء بالسيارات وبزحمةٍ خانقة. هذا ضغط إضافي على السيارة، وكأننا نقول للمواطن إنّ هذا الخطّ هو كلّ ما ستحصل عليه، ولا حلّ لأزمة السير، لكن لدينا باصات ودراجات… رابعاً: تكثيف العمران والسكان. نسمع كثيراً أن بيروت مزدحمة دائماً والناس يقولون دائماً إنّهم بحاجة "للخروج من بيروت". هذا الخيار طبعاً ممكن مع السيارة والتمدد العمراني الناتج عن السيارة. بيروت لا تختلف عن باقي مدن العالم، الفرق هو انعدام التنظيم المدني كما أنّ المضاربات العقاريّة تجعل بيروت مكلفة لعددٍ كبير من المواطنين إلّا أنّه من الممكن أن يتمّ كبح جنون المضاربين العقاريين بخطّة إسكان واضحة ومنظّمة. يفترض اليوم إعادة العمل على نظام تكثيف السكّان في مكانٍ واحد، وتكثيف الخدمات حولهم، شرط أن تكون منظّمة، يعني عدم فتح معمل أحذية بكعب بناية سكنيّة. لماذا التكثيف؟ لأنّ الهدف الأوّل للنقل العامّ ليس تنظيمه فقط، بل التخفيف من الحاجة للتنقّل أصلاً وفي الوقت عينه التخفيف من كميّة ونوعيّة النقل. معظم الدول الكبيرة في العالم تعمل اليوم على تنظيم جديد يسمّى "مدن الـ١٥ دقيقة" وهذا يعني تنظيم المدينة بشكلٍ أن لا تتخطّى كلّ حاجات المواطن قطرا لا يتعدّى خمسة عشرة دقيقةً من المشي: مستشفى، ومدرسة، وسوبرماركت، وصيدليّة، ومتاجر. مثلاً: إذا أراد الفرد أن يخرج إلى الصيدليّة، يمرّ بطريقه ليوصل ابنه/ابنته إلى المدرسة، ثمّ يمرّ على السوبرماركات لشراء حاجات اليوم، ثمّ يصل إلى الصيدليّة ليعود بعدها إلى منزله من دون أن يضطرّ إلى استخدام النقل مرّة واحدة.

من هنا تصبح السيارة الاستثناء وليس القاعدة. تأتي لاحقاً مع هذه السياسات خطوات عديدة لتدعمها، ومنها حملات التوعية، زيادة الضرائب، الحد من الاستيراد، وغيرها. سبب غياب النقل المشترك هو "لإنو عملنا كلّ الاشيا السلبية مع بعضها وبعكس اتّجاه العالم"، سياسة الحكومات اللبنانيّة المتتالية كانت تشجّع كلّ عاملٍ يجذّر السيّارة.

3 views0 comments

Comments


bottom of page