الثابت في أزمة النقل التي نعيشها أننا انتقلنا، بشكل دراماتيكي، من عصر إلى عصر. المشكلة أكبر وأعمق من احتكار وتهريب ونقص سيولة لفتح اعتمادات. بل هي نتيجة خيارات اقتصادية اتُّخذت عن سابق تصور وتصميم لضرب النقل العام والمشترك وتشجيع تملّك السيارات الخاصة، حتى وصلنا إلى سيناريو قد لا يكون معظم مالكي السيارات الخاصة قادرين على تحريك سياراتهم بعد رفع الدعم كلياً، ولا نقل مشترك قادراً (أو راغباً) على تلبية تنقّلات المواطنين.
كلفة السرفيس داخل بيروت تراوح بين 15 ألف ليرة و20 ألفاً، وكلفة التنقل، ذهاباً وإياباً إلى العمل ومنه، لأي موظف تُقدر بحوالى 800 ألف ليرة، أي أكثر من الحد الأدنى للأجور بـ 125 ألف ليرة. وأوضح تقرير نشرته «الدولية للمعلومات»، أخيراً، أن «أجور النقل بواسطة السيارات العمومية أو الفانات الصغيرة والحافلات الكبيرة ارتفعت بنسبة أعلى من ارتفاع أسعار البنزين والمازوت». إذ ارتفعت أجرة السرفيس داخل بيروت بنسبة 87.5%، وزادت كلفة الحافلات الصغيرة والكبيرة من بيروت إلى طرابلس بنسبة 100%، ووصلت إلى 114% للحافلات الكبيرة بين بيروت وجونية. رئيس اتحادات ونقابات قطاع النقل البري بسام طليس أعلن، الأسبوع الماضي، أن رئيس الحكومة حسان دياب وافق على أن تدعم الدولة القطاع، لتُباع صفيحة البنزين بـ 100000 ليرة وصفيحة المازوت بـ 70000 ليرة للسائقين العموميين، على أن تُثبّت تعرفة السرفيس بـ 10 آلاف ليرة. إلا أن «مشكلة النقل في لبنان بنيوية ولا يحلّها تأمين الدعم أو تشكيل حكومة أو أي حجة أخرى»، بحسب الباحث المتخصّص في أنظمة النقل وعادات التنقل علي الزين، إذ أن «كل المؤشرات، منذ سنوات، كانت تؤكد أننا مقبلون على أزمة كبيرة في قطاع النقل بسبب السياسات، أو اللاسياسات، التي اعتُمدت في هذا المجال. والنتيجة الحتمية لذلك هي انتقالنا من نظام نقل إلى لانظام للنقل، ما سيؤدي إلى تغيّرات جوهرية في أسلوب النقل في لبنان وسلوكيات المواطنين في هذا الخصوص». يلفت الزين إلى أن «دعم السائقين العموميين أمر بديهي في الظروف الطبيعية، في غياب أي بديل آخر في الوقت الراهن. لكنّ خطة الدعم المطروحة ليست أكثر من كلام حق يراد به باطل. فلا أحد يعلم عدد المركبات التي يجب أن يطاولها الدعم، ولا وفق أي داتا. فحسب الضمان الاجتماعي، هناك 42400 شخص يملكون لوحات حمراء. لكن، كم يبلغ عدد من يعملون في القطاع فعلياً، إذ أن كثيرين من هؤلاء اشتروا لوحات حمراء لتأجيرها والاستفادة من الضمان، وهم مسجّلون كسائقي نقل مشترك؟». ونبّه من أن «النية المبيتة خلف كل ما يُخطط له هو دعم مشروع انتخابي وضمان أصوات من سيستفيدون من الدعم وعائلاتهم». أما في حال صدقت النيات فمن الضروري «إجراء جردة لحصر عدد السائقين الذين يعملون فعلياً وليس كل من يملك لوحة حمراء، وتركيب أجهزة تحديد الموقع GPS على السيارات والباصات للتأكد تحدد عدد الكيلومترات التي يقطعها السائق خلال مدة زمنية معيّنة كشرط للاستفادة من الدعم. صحيح أن هذا يبدو سوريالياً في الظروف التي نعيشها، لكن على أي أساس سيُمنح السائقُ بنزيناً أو مازوتاً مدعوماً من دون معرفة ما إذا كان يعمل فعلياً أو حجم إنتاجيته، ومن يضمن ألا يبيع المحروقات في السوق السوداء للاستفادة من فرق السعر من دون أن يُضطر للعمل».
أضف الى ذلك، يوضح الزين أن أكثر من 60% من النقل المشترك في لبنان موجود في بيروت الكبرى، ما يحرم مناطق بكاملها من خدمات النقل المشترك، ويفترض توزيع السائقين العموميين على الأطراف والمناطق النائية والبعيدة، بمنحهم محفّزات قد تكون على شكل مساعدات أو دعم أكبر.
المهندس المدني المتخصّص في مجال النقل رامي سمعان يلفت الى أن «أحد الحلول لضمان عدم التفريط بالدعم هو دعم تعرفة النقل وليس دعم السائق، لأن دعم المحروقات قد يدفع السائقين إلى بيع الصفيحة المدعومة». أما زيادة اللوحات الحمراء لتلبية أكبر عدد من السكان والمناطق فـ«لن يؤدي إلا إلى تعميم الفوضى لأن عدد اللوحات الموجودة يفوق المطلوب، ويجب تنظيم السوق وليس إغراقه». فيما يحذّر الزين من أن اقتراح زيادة اللوحات «لن يأخذ في الاعتبار حاجات السوق والعرض والطلب بقدر ما سيكون الهدف منه توزيع اللوحات من أحزاب السلطة على قاعدة الانتماء الحزبي والمناطقي».
في ظل هذا الواقع، هل من حلول ابتكارية للتكيّف مع الأزمة والحد من تبعاتها السلبية؟
يؤكد الزين «أننا بدأنا نلمس تغيّرات جذرية في عادات التنقل لدى أغلبية السكان الذين أصبحت تنقلاتهم مرتبطة إلى حد كبير بالضروريات فقط. هذه التبدلات من شأنها أن تتعمّق في المستقبل إلى حد قد تدفع بكثيرين إلى الانتقال إلى عمل أقرب لسكنهم أو العكس أو ربما ترك عملهم نهائياً في حال زاد تأزم مشكلة النقل». ويلفت إلى أن «النقل التشاركي من العادات التي ستظهر وتنتشر رغم بعض المعوقات القانونية والاجتماعية التي تحدّ من جاذبيته. كذلك يجب العمل على النقل التشاركي المؤمّن من أرباب العمل، كأن يتعاقد هؤلاء مع باص لإيصال الموظفين الى أماكن سكنهم، بدل إعطائهم بدل النقل».
بحسب الزين «النموذج اللبناني في النقل فريد من نوعه. من ناحية لدينا قطاع نقل، كما في الدول الغنية، يعتمد على السيارة وأسطول حديث ومصروف نقل عال. ومن ناحية أخرى نملك خصائص النقل في الدول الفقيرة لجهة ضعف قطاع النقل المشترك وصعوبة التنقل للفقراء»، وإذا ما استمرت الأزمة «لن يكون من المستغرب رؤية مواطنين يتنقلون في صناديق شاحنات البضائع»!
Comments