top of page
Writer's picture Ali El Zein - علي الزين

نظام النقل يجعل الطرقات ساحات إعدام: شاهد آخر على تسفيه مخاطر الحياة العامة

فلنتخيّل أنّ في لبنان يسقط كلّ عام طائرتا ركاب من الحجم المتوسّط ويُقتل جميع ركابها. كارثة ستهزّ الرأي العام وتحرّك وسائل الإعلام والجهات الرسمية، صحيح؟ بالفعل، هذه الكارثة تحصل كلّ عام في لبنان ولكن بوسائل أخرى، وسائل النقل البرّي، جرّاء الصدامات المرورية التي تحصد كل عامّ ما يقارب 500 قتيل و5000 جريح، عدا عن الخسائر المادية الفردية والمجتمعية والاقتصادية وحتى النفسية الناجمة عن هذه الكارثة.

كونه يعتمد بشكل مفرط على السيارة، يعاني نظام النقل في لبنان من ضعف في الاستدامة. هذا الضعف ناجم عن عوامل بيئية واقتصادية واجتماعية عدّة: التلوّث البيئي والسمعي الهائل الناتج عن السيارات تحديدًا، خسارة المساحات العامة والحيّز العام لمصلحة البنى التحتية المخصصة لها من طرقات ومواقف وضعف المساواة في التنقل وإمكانية الوصول والقدرة على استخدام مختلف وسائل النقل لا سيما بين مستخدمي السيارة وغيرهم من مستخدمي نظام النقل… يُضاف إليها ضعف السلامة المرورية على طرقات لبنان. نقص الاستدامة بشكل عام وضعف السلامة المرورية بشكل خاص متجذّران منذ ما قبل الأزمة متعددة الأبعاد التي نعيشها منذ 2019، وإن كانا تطوّرا نوعًا ما خلالها، من دون أن تكون هذه الأزمة السبب المباشر للتدهور الإضافي في سلامة تنقلات اللبنانيين. هذا الضعف في الاستدامة ليس حكرًا على لبنان وهو ليس الوحيد الذي لديه ضحايا يخسرها على الطرقات، إلّا أنه من ضمن مجموعة البلدان التي لا ترقى ردة فعل السلطة فيها إلى مستوى الكارثة رغم الأرقام الفاضحة وتحوّل طرقاتها لساحات إعدام مع كل الخسائر الناجمة المرافقة لذلك. بل أكثر، في بعض الأحيان قد تكون إجراءات السلطة عاملًا مساعدًا لإضعاف السلامة المرورية أكثر بدل تحسينها.

يعمل هذا المقال على تفصيل ضعف السّلامة المرورية كأحد عوامل أزمة النقل في لبنان، وشرح مسبّباتها ونتائجها، مرورًا بشرح تطوّرها خلال الأزمة الحالية وتفصيل خطّة السلطة لمواجهتها قبل استشراف سبل تحسينها ضمن إطار أوسع لتطوير نظام النقل في لبنان.

أرقام ووقائع

مع اندلاع الأزمة متعددة الأبعاد الحالية في لبنان، توالى انهيار القطاعات واحدًا تلو الآخر. لم يكن قطاع النقل بمنأى عن ذلك. تمثّل الانهيارُ الذي أصابَ القطاع بارتفاع تكلفة النقل، وبتدهور إضافي بخدمات النقل المشترك الضعيفة أصلًا، وباتساع اللامساواة في تنقلات المقيمين… كما بتضعضع البنية التحتية الطرقية وحالة المركبات. لا شكَّ أنّ هذه الأزمة وما نتج عنها من نقص في الاستثمار والصيانة للطرقات والمركبات عاملٌ مساعد في إضعاف السلامة المرورية أكثر، لكن من الخطأ إيهام الناس بأنّ هذه الأزمة هي السبب الرئيسي للصدامات المرورية، كما يحاول جزء من سردية السلطة وبعض الإعلام الإيحاء به. فالسّلامة المرورية في لبنان ضعيفة أساسًا منذ ما قبل الأزمة وضعفها بنيوي وناجم عن إهمال متجذّر في قطاع النقل.

مع ما يقارب مليون و300 ألف قتيل وحوالي 20 إلى 50 مليون جريح في العالم، تعد سلامة الطرق أحد أهمّ خمسة أسباب للوفاة في البلدان ذات الدخل المتوسط أو الضعيف، التي ينتمي إليها لبنان. في هذه البلدان، تحدث 90% من حوادث الطرق على الرغم من أنّها تمتلك أقلّ من نصف عدد المركبات في العالم [1]. هذا الوباء الذي يحصد مئات الآلاف من الضحايا في العالم يصيب لبنان أيضًا. في عام 2016، تمّ تسجيل أكثر من 3400 حادث أسفر عن مقتل 450 شخصًا وجرح حوالي 5000 شخص تقريبًا. ارتفعت هذه الأرقام إلى مرة ونصف في عام 2018 حيث وقع 4551 حادثًا، أودى بحياة 500 شخص وأصاب 6000 آخرين. وظلّت أرقام الحوادث والضحايا في عام 2019 متقاربة مع أرقام العام السابق حيث وقع 4582 حادثًا، راح ضحيّتها 487 شخصًا وأصيب 6101 آخرون. وفي المتوسط، يعاني ثلثا الجرحى من إصابات ثانوية بينما يعاني الثلث الآخر من إصابات خطيرة قد تؤدي إلى الوفاة أحيانًا.

يجدر الذكر أنّه عند استعراض الأرقام والإحصاءات المتعلقة بالصدامات المرورية، يجب الانتباه إلى أنّ كلّ الأرقام المحلية والعالمية تشمل فقط الصدامات التي تمّ الإبلاغ عنها رسميًا لدى الجهات المختصة (مثل الشرطة والقطاع الصحي والقضاء وما إلى ذلك)، في حين تغيب كلّ الصدامات التي لا يتم الإبلاغ عنها إما لعدم القدرة على الوصول إلى تلك الجهات المختصة أو بسبب طابعها الهامشي أو حلّها بشكل مباشر بين الطرفين المتصادمين. عامل آخر يمكن أن يؤثّر على التعداد الصحيح هو أنّ معظم الوفيات المسجّلة هي تلك التي تحدث على الفور وفي مكان الحادث، في حين يكون من النادر تعقب الإصابات التي تؤدي إلى الوفاة بعد فترة من الزمن. لذا، تشير التقديرات إلى أنّ العدد الحقيقي للوفيات الناجمة عن الصدامات المرورية يكون ضعف ما يتمّ الإعلان عنه، أيّ أنّها تصل إلى حدود 1000 قتيل سنويًا، أي حوالي 18 قتيلًا بين كل 100 ألف مقيم، وهو رقم مماثل لما تسجّله بعض الدول العربية والإقليمية مثل العراق، إيران، الإمارات، المغرب، وعمّان، لكنه مثلاً ضعف ما تسجّله اليونان، وثلاث مرات أكثر من فرنسا، وخمسة مرات أكثر من ألمانيا وإسبانيا، وست مرات ونصف أكثر من السويد [2].

كما هي الحال في أغلب دول العالم والنامية بشكل خاص، أكثر من نصف ضحايا الصدامات المرورية في لبنان هم من الفئات الضعيفة مثل مستخدمي الدراجات النارية ووسائل النقل العام والمشاة الذين يشكلون وحدهم ربع عدد الضحايا [3]. متوسط عمر الضحايا في لبنان هو 37 عامًا ويشكل الأطفال خمس عددهم. جغرافيًا، تشهد بيروت وجبل لبنان أكبر نسبة من الصدامات المرورية. وفيما يتعلق بوسائل النقل، تظلّ السيارة الوسيلة الأخطر بدون منازع حيث تتسبّب بما يزيد عن 80% من الصدامات نصف ضحاياها من سائقي المركبات أنفسها. من ناحية البنية التحتية، تحدث حوالي 75% من الصدامات في المناطق الحضريّة، ونصفها يحدث على طرق ذات اتّجاهين من دون فواصل وسطية، بينما يقع 21% منها على طرق ذات اتجاهين بفواصل وسطية. وحوالي 38% من الحوادث تحدث في الظلام بين المساء والفجر، و74% منها تحدث في ظروف مناخية جيدة من دون أمطار أو ثلوج. وتؤدّي الظروف الجوية دورًا ضئيلًا مقارنة بسوء حالة الطرق [4]. وفي استطلاع رأي أُجري في العام 2018، جاءت المخاطر المرتبطة بضعف السلامة المرورية في المركز الرابع بعد زحمة السير وضعف خدمات النقل المشترك ومشاكل وقوف السيارات والتوقف، كأكثر العوامل إزعاجًا للأفراد أثناء تنقلهم [5].

تمثل الخسائر المرتبطة بحوادث الطرق بشكل عام حوالي 3% من الناتج المحلي الإجمالي للبلدان1. في لبنان، يقدّر أن تتراوح تكلفة حوادث الطرق بين 1% و1.5% من الناتج المحلي (قبل الأزمة) وفقًا لبعض التقديرات [6] 4. وتبلغ تكلفة الحياة المتوسطة حوالي 4.4 سنتًا أميركيًا لكلّ راكب لكل كيلومتر[7]. تنقسم تكاليف حوادث الطرق إلى تكاليف تجارية مباشرة وغير مباشرة، وتكاليف غير تجارية. تكاليف الأضرار المباشرة تتضمن تكاليف الرعاية الصحية (الطبية، الإنقاذ، المساعدة المنزلية) والمعدات (المركبات، الممتلكات العامة، وما إلى ذلك) والنفقات العامة (الشرطة، القضاء). أما التكاليف غير المباشرة فتتعلق بفقدان إنتاج الأشخاص الذين توفوا أو أصيبوا. وتبلغ التكلفة المتوسطة للحياة حوالي 127,710 دولار لكل حالة وفاة و2,800 دولار لكل إصابة. في عام 2010 مثلاً، بلغت التكاليف الإجمالية للحوادث 198 مليون دولار كتكلفة للوفيات، و324 مليون دولار كتكلفة للإصابات، و126 مليون دولار كأضرار للممتلكات (عام 2010) [8]. وبالنسبة للتكاليف غير المباشرة، تؤثر حوادث الطرق بشكل رئيسي على الرجال، وبخاصة أولئك في فئة الأعمار بين 15 و44 عامًا حيث يشكلون حوالي 45% من الضحايا، والذين يشكل جزء كبير منهم أرباب أسر. وهذا يعني أنّ وفاة أو إصابة الضحية ستؤدّي إلى فقدان الدعم الرئيسي وتسبب في صعوبات اقتصادية كبيرة للأسر.

ضعف السلامة المرورية: ابحث عن السلطة

يُعتبر السلوك غير المسؤول للسائقين ونقص التوعية بمخاطر السلامة العامة أحد العوامل الرئيسية التي تساهم في نقص السلامة على الطرق. تزيد القيادة بسرعة زائدة، وعدم احترام إشارات المرور، والتجاوز بطرق خطرة، والقيادة تحت تأثير الكحول أو المخدرات من مخاطر وقوع حوادث الطرق بشكل كبير1. قبل الأزمة، بين نيسان 2015 وتموز 2016، تمّ تسجيل أكثر من مليون مخالفة للسرعة الزائدة في لبنان و600 ألف مخالفة في العام 2016. بين عامي 2016 و2017 تمّ تسجيل ما مجموعه 891 ألف مخالفة سير في لبنان، 65% منها لتخطّي السرعة2. مع أسطول مركبات يقدّر بـ 1.8 مليون مركبة، وسطيًا حوالي نصف المركبات في لبنان لا تحترم مستوى السرعة. للتنويه، الرقم الحقيقي أعلى من ذلك بكثير حيث أن المخالفات لا يتم تسجيلها سوى عبر 60 رادارًا على كامل الأراضي اللبنانية (بمعدل رادار واحد لكل 380 كيلومترًا من الطرق تقريبًا) يضاف إليها عشرات كاميرات المراقبة. غالبية الرادارات والكاميرات خارج الخدمة اليوم.

ولكن، لا يمكن لهذه المخالفات وعدم احترام القانون أن تحصل لولا أنّ السلطة نفسها غير مبالية بموضوع السلامة المرورية ولا حتى بتطبيق القانون. مرور سريع على نص قانون السير اللبناني كافٍ لإدراك كم البنود التي لا يحترمها مستخدمو قطاع النقل والتي لا تسعى السلطة حتى إلى تطبيقها، وهي التي تعاني ضعف الأجهزة المكلّفة بتنفيذ القوانين وتنقصها التجهيزات والتدريب اللازم لضمان احترام القوانين.

بداية، يحيلنا الحديث عن الرادارات ومخالفات السرعة إلى إلقاء الضوء على إشكاليّتين. الأولى هي أنّ الأموال المحصّلة من هذه المخالفات لا تُحوّل إلى أيّ تمويل مباشر مختصّ بقطاع النقل بشكل عام والسلامة المرورية بشكل خاص. فالمادة 401 من قانون السير (243/2012) تنص على أن يتمّ توزيع عائدات غرامات السير على الشكل التالي: 20% لقوى الأمن الداخلي، 16% للبلديات و64% لصالح الخزينة فيما توّزع الغرامات المحصلّة بموجب أحكام قضائية، إضافة إلى التوزيع الأول، بـ 30% لصندوق تعاضد القضاة و20% للصندوق التعاوني للمساعدين القضائيين والباقي (14%) للخزينة العامة. عدا عن أنّ هذا القانون لا يتلاءم مع مبدأ وحدة المداخيل في المحاسبة العمومية وعدم تخصيصها لأغراض معيّنة، فإنّه أيضًا يضع مصلحة قوى الأمن والقضاء كمستفيدين من العائدات، مما يثير الشبهات حول مصداقية تسطير محاضر الضبط والحكم فيها. الإشكالية الثانية هي أنه خلال الأزمة لم نسمع حتى اليوم عن تعديل هذه الغرامات بما يتناسب مع تغيّر سعر الصرف والتضخم الحاصل جراء الأزمة. فالغرامات ليست مرتفعة نسبيًا ولا تشكل رادعًا حقيقيًا للمخالفين، وأصبحت بمبالغ لا تذكر اليوم في ظل الأزمة. مثلًا، مخالفة السرعة التي كانت تُقدّر بـ 35 دولارًا قبل الأزمة، أصبحت نصف دولار اليوم. مخالفة الركن كانت حوالي 13 دولارًا قبل الأزمة، أصبحت 0.2 دولار اليوم، … (للتذكير، الرادارات اليوم خارج الخدمة مما يعني أنّ تسجيل مخالفات سرعة تقريبًا معدوم).

بهذا المنطق نفسه، اقترح وزير النقل علي حميّة إنشاء صندوق لتمويل قطاع النقل يتمّ تمويله من المخالفات وغرامات السير، بما يعني أن يكون لقطاع النقل مصلحة في أن تزيد الصدامات والمخالفات لتأمين جزء من تمويله. اقتراحٌ “مهزلة” فات الوزير فيه أنّ المبالغ المحصلة ستكون فتاتًا ضئيلة. العامل الإضافي الذي يقع على عاتق السلطة هو حالة البنى التحتية الطرقية. يصعب تقييم حالة الطرق في لبنان أولًا بسبب غياب تصنيف لكامل شبكة الطرق، وثانيًا بسبب غياب الأرقام الدقيقة حول حالة الطرق. تقع هذه المسؤولية على عاتق وزارة الأشغال والنقل، وكذلك على البلديات والجهات المعنية بالنقل، مثل مجلس الإنماء والإعمار، ولكنها جميعًا غائبة عن أداء واجبها بهذا الخصوص. أُجري إحصاء رسمي لحالة الطرق في لبنان عام 2002، وبيّن حينها أنّ أقلّ من 20% من شبكة الطرقات المصنّفة تعتبر بحالة جيدة، مقابل 70% في حالة متوسطة و13% في حالة ضعيفة أو سيئة جدًا [9]. أُعيد هذا الإحصاء في أواخر العقد الماضي مع برنامج “مشروع الطرقات والعمالة” المموّل من البنك الدولي عبر مجلس الإنماء والإعمار. وأظهر أنّ نصف الطرقات المصنّفة (6600 كلم) لا يستوفي شروط السلامة المرورية من حيث الإنشاء والصيانة، فيما وضع النصف الثاني بحالة “مقبولة” [10]. على مؤشر حالة الطرق وسلامتها، يقع لبنان بين أسوأ 30 دولة عالميًا والتاسعة عربيًا (ويرجى أخذ هذه التصنيفات بحذر، نظرًا لعدم وضوح منهجية الإحصاء والترتيب واعتمادها على مؤشرات وعوامل محددة قد تؤثر على جودتها). يزيد ضعف الصيانة للطرق ونقص الإشارات المرورية والضوئية الواضحة والكافية والإضاءة المناسبة من ضعف السلامة المرورية أيضًا.

وبالحديث عن السلطة وتفاعلها مع أزمة السلامة المرورية، يجدر التذكير ببعض الكيانات التي أُنشئت للعناية بموضوع السلامة المرورية، أبرزها المجلس الوطني للسلامة المرورية والهيئة الوطنية للسلامة المرورية وغرفة التحكم المروري التابعة لهيئة إدارة السير والمركبات.

أُنشِئَ المجلس الوطني للسلامة المرورية في 2012 بموجب قانون السير (الباب العاشر – المواد 355 إلى 358). تقوم صلاحياته الأبرز على تطبيق قانون السير ورسم سياسة السلامة المرورية وتطوير مناهج التعليم والحصول على دفاتر السوق كما إقامة حملات إعلامية. بدأ عمل المجلس في 2015 ويرأسه رئيس الوزراء بمشاركة الوزارات ذات الصلة (الداخلية والنقل والتعليم والعدل). ويبدو أنّ هذا المجلس غير فاعل بما فيه الكفاية، فعدد اجتماعاته لا يذكر، ولربما لم يجتمع سوى مرة أو اثنتين منذ تأسيسه قبل 8 سنوات على الرغم من أنّ القانون واضح بما خصّ إلزاميّة انعقاده كل ثلاثة أشهر. التأم هذا المجلس في شهر تشرين الثاني 2022، العام الذي سجّل 318 قتيلًا على الطرقات اللبنانية، بما فيها الحادث المأساوي الذي أودى بحياة الفنان جورج الراسي (آب 2022)، نتيجة إهمال واضح للبنية التحتية وشروط السلامة على الطريق الدولي، على غرار مئات الصدامات التي تحصل في لبنان باستمرار. بعد هذا الحادث بشكل خاص ونظرًا لشهرة الضحية ولفضائحية سبب الصدام، تصاعد الحديث حول السلامة المرورية في الرأي العام ووسائل الإعلام، مما أدى إلى زيادة التصاريح والوعود بالتحسين من وزير النقل إلى وزير الداخلية، ولجنة الأشغال النيابية وغيرها. وللمفارقة، لم تقتصر ردود أفعال السلطة هذه المرة على الكلام، بل تمّ بنتيجة اجتماع المجلس الوطني للسلامة المرورية (حضره رئيس الوزراء ووزير النقل والعدل والتربية وممثلون عن مجلس الإنماء والإعمار) تخصيص مبلغ 22 مليون دولار لتحسين السلامة المرورية، عبر تخصيص جزء من تمويل البنك الدولي المخصص للطرقات (200 مليون دولار لمشروع “الطرقات والعمالة”) يتم تلزيمها عبر مجلس الإنماء والإعمار. كثيرة هي الأسئلة التي تدور حول هذا القرار بالشكل والمضمون.

أولًا، إنّ المبلغ المقرّر لا يبدو سوى عبارة عن هدية من ملايين الدولارات ستذهب في النهاية إلى جيوب المتعهدين أنفسهم (أو جزء منهم)، الذين قاموا بإنشاء وصيانة الطرق والطلب منهم تحسين شروط السلامة المرورية التي كان من المفترض أن يؤمّنوها في مشاريعهم أساسًا. أيضًا ، فإنّ المبلغ المرصود لا يعتبر ضئيلًا على الإطلاق خاصة أنه بالعملة الصعبة وفي ظل الأزمة، علمًا أنه مخصص فقط لتحسين البنى التحتية التي، على الأغلب، إذا تم تنفيذها كما يجب (وهذا مستبعد)، ستتدهور عاجلًا أم آجلًا وسيكون هناك حاجة مجددًا لتخصيص مبالغ إضافية مرارًا وتكرارًا للهدف نفسه. وهذا الحلّ لا يبدو مستدامًا بالتأكيد. بدلًا من ذلك، كان من المفترض أن يتمّ تخصيص هذا المبلغ لوضع استراتيجية وطنية لقطاع النقل لاستدامة القطاع، لا الاكتفاء بالحديث عن استراتيجية للسلامة المرورية (من ضمن مقررات المجلس الوطني للسلامة المرورية) كحالة منفصلة عن قطاع النقل برمّته، علمًا أنّ هذه الاستراتيجية هي من ضمن مهام المجلس منذ تأسيسه، فلماذا لم تتم من قبل؟ أيضًا، فإن الحديث عن السلامة المرورية وحدها من دون التطرق إلى جوهر أزمة النقل وانهيار القطاع غير مجدٍ. فإذا افترضنا، بصعوبة بالغة جدًا، صدق النوايا وحسن التنفيذ، فإنّ جدوى هذا التمويل ستكون محدودة: مشكلة السلامة المرورية بنيوية وتنبع بالأساس من الاعتماد المفرط على السيارة، وبالتالي فإنّ تحسين هذه السلامة لن يكون جذريًا إلّا بحلّ جذري يقلّل الاعتماد على السيارة ويزيد من فعالية واستخدام بدائلها، وليس فقط بتحسين البنى التحتية الطرقية. ورغم أنّ هذه الخطوة أساسية، إلّا أنّها تبقى الحلقة الأضعف في سلسلة تحسين السلامة المرورية، وسيتمّ التطرّق لذلك لاحقًا في ختام هذا المقال.

هذا في الشكل، أما في المضمون فالأسئلة والشكوك تتضاعف كون الأموال ستمر عبر مجلس الإنماء والإعمار. تبيّن إحدى الدراسات [11] حجم تضخيم أسعار التلزيمات التي تولاها المجلس وشبكة العلاقات بين المتعهدين والنافذين فيه. عدا عن كون المجلس ذائع الصيت بما خص المحسوبيات والزبائنية وهو الكيان المستقل تمامًا بعمله وصولًا حدّ استقبال وصرف الهبات والقروض وحده. يذكر أنّ المجلس لا يخضع سوى لوصاية رئاسة مجلس الوزراء، بوصفه حصة طائفية كغيره من المجالس “الدكاكين” (المهجرين والجنوب).

وبالحديث عن المتعهدين وعلاقاتهم بالسلطة، فقد كان من الملفت أن في مشروع موازنة 2023 (المتأخرة 9 أشهر عن موعدها الدستوري) طالبت الحكومة بإقرار إعفاءات ضريبية لمتعهدي الأشغال العامّة عن أرباحهم عما قبل نهاية العام 2021، في خطوة مشبوهة لا تبدو سوى إرضاء للمتعهدين وتعويض لهم عن فرق سعر الصرف وأثار الأزمة، وهم الذين توقفوا عن إتمام عدة مشاريع لهاتين الحجّتين.

أيضًا، بعد مرور 8 أشهر تقريبًا على تخصيص مبلغ 22 مليون دولار، لم يتمّ حتى اليوم نشر أي معلومة عامة حول أين وكيف ولماذا ستخصص هذه المبالغ، ولا عن أولويات العمل (مسؤولية وزارة النقل)، ولا أين أصبح تلزيم ما أسموه “الاستراتيجية الوطنية للسلامة المرورية”، ولا صيانة المركز الوطني للسلامة المرورية (لماذا تخصيص مركز لمجلس معطّل ومغيّب أساسًا؟)، ولا عما توصلت إليه “اللجنة المختصة لدراسة وضعية الأشغال المنفذة من قبل مجلس الإنماء والإعمار في المصنع”، ولا عمّا توصلت اليه اللجان ضمن لجنة الأشغال النيابية كتلك التي عقدت في أيلول 2022 لـ “وضع خطة طارئة للسلامة المرورية” والتي غاب عن اجتماعها هذا وزيرا النقل والداخلية مثلًا.

إلى جانب هذا المجلس، توجد اللجنة الوطنية للسلامة المرورية (أيضًا بموجب قانون السير، المواد 359 إلى 363) والتي يرأسها وزير الداخلية، مع عضوية مدراء الإدارات المعنية بقطاع النقل (النقل البري، الطرق والمباني، السير والآليات والمركبات)، كما مدراء السياحة والتعليم المهني والتقني العامين بالإضافة لقضاة وضباط ورؤساء اتحادات ونقابات النقل ومدارس السوق وخبراء السير وشركات التأمين ومستوردي السيارات وممثلين عن الضمان الاجتماعي ومجلس الإنماء والإعمار والجمعيات المعنية بالسلامة المرورية. أبرز مهام هذه اللجنة إجراء الدراسات والأبحاث لتطوير السلامة المرورية ورفعها إلى المجلس، تقديم اقتراحات القوانين وإبداء الرأي في مشاريع القوانين كما مناهج السوق وامتحاناته والقيام بحملات توعوية وإعداد التقارير. وعلى الرغم من كثرة المشاركين في هذه اللجنة وتعدّد مهامها، تكاد تكون غير موجودة ولا يسمع عنها بتاتاً ولا عن مقرّراتها ولا آليات عملها. يبدو أنّ مئات الضحايا على الطرقات سنويًا ليسوا سببًا كافًا لتفعيل هذا المجلس وهذه اللجنة.

يضاف إلى المجلس واللجنة الوطنية للسلامة المرورية غرفة التحكم المروري المسؤولة عن رصد وإدارة حركة المرور وضبط وإحصاء الصدامات المرورية في لبنان، وهي ناتجة عن شراكة بين هيئة إدارة السير والمديرية العامة لقوى الأمن الداخلي والوكالة الوطنية للإعلام. فيما يغيب الشرح الرسمي والتفصيلي لمهام غرفة التحكم المروري، إلّا أنها تولّت مراقبة وإدارة حركة المرور على الطرق، التنسيق والتوجيه بين مختلف الجهات المعنية، إصدار تعليمات وتحذيرات وإعلانات للسائقين وجمع وتحليل البيانات. تمّ تمويل إنشاء هذه الغرفة من ضمن مشروع النقل الحضري لبيروت الكبرى التي خصّصت لها بداية قبل أن يتوسّع عملها ليشمل باقي الأراضي اللبنانية. على الرغم من كثرة مسؤولياتها وأهميتها، إلّا أنّ الغرفة تحوّلت مما كان يفترض بها أن تكون أي مرصدًا ومركزًا أساسيًا للتحوّل إلى عدّاد صدامات وضحايا على الطرقات عبر تغريدات ومنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي لا أكثر.

وغرفة التحكم المروري بالأساس مرتبطة بهيئة إدارة السير والمركبات وهي جهة تابعة لوزير الداخلية والبلديات. يُمارِس الأخير الإشرافَ الإداريَّ على تنفيذِ مشاريعها ويقوم دورها الأساسي على تسجيل المركبات الآلية، وإصدار دفاتر السوق. في أنظمة النقل المعتمدة على السيارة، كما في لبنان، تشكّل رخصة السوق والوصول للسيارة (شراء، استخدام، تسجيل،…) عاملين أساسيين للدخول إلى “نظام السيارة” وتغذية الاعتماد عليها. لهيئة إدارة السير دورٌ محوريٌ إذًا في هذا الدخول، مما يحتّم عليها إجراء دراسات وإصدار إحصاءات وتطوير أنظمتها وتأطيرها. على العكس من ذلك، أصبحت هذه الإدارة مرادفًا للفساد من توزيع رخص السوق إلى تسجيل المركبات من دون احترام المعايير والقوانين الواجب اتّباعها مما يهدّد بإفقاد السائقين أهليّتهم لقيادة المركبات وضعف شروط السلامة في هذه المركبات مؤديًا إلى تهديد مباشر للسلامة العامة. يتكامل ذلك مع شبكات مدارس السوق التي لا تؤهل روّادها بشكل كافٍ للقيادة، كما مع السماسرة وخبراء السير كجزءٍ من شبكة مصالح متشعبة.

لا يتمّ التأكّد من شروط المركبات فقط عند تسجيلها بل أيضًا خلال الفحص التقني السنوي (الميكانيك) والذي يعتبر هو أيضًا حجرًا أساسيًا في تحسين السلامة المرورية عبر منح أو رفض الإذن للمركبات بالسير بحسب حالتها التقنية. ولكن أيضًا، أصبحت هذه الخدمة فاسدة: من تلزيم الميكانيك، لعمل الشركة رغم انتهاء تلزيمها، لشبكة الأشخاص المستفيدين كأصحاب ورش التصليح على باب مراكز المعاينة الذي يعملون على “تزوير” حالة السيارة التقنية ليزيدوا فرصَها بنجاح الاختبار، إلى السماسرة والمكاتب، وصولًا إلى اقتراح رسمي أن يدفع المواطنون رسوم الميكانيك المتوجبة عليهم من دون المرور بالاختبار التقني بما يشكّل اعترافًا واضحًا بأنّ هدفَ الميكانيك هو مداخيله فقط من دون إعارة الاهتمام الكافي لاحتمال أن تتحوّل المركبات إلى آلات قتل متنقلة لا تستوفي شروطَ السلامة.

ما ذكر أعلاه ليس سوى أمثلة بسيطة عن تعامل السلطة الطوائفية مع تهديد فعلي وجدّي لحياتنا بشكل يومي. يكفي القياس على ذلك في باقي القطاعات والخدمات لفهم مدى خطورة الوضع في لبنان. يضاف إليها غياب الخطط الاستراتيجية والرؤى الجديّة كما الفساد في التلزيمات من الطرق لبناها التحتية والطرقية مرورًا بعدم احترام القوانين ولا العمل على تطبيقها وصولًا إلى غياب المحاسبة بشكل شبه تام.

في ظلِّ كل هذا، تحصل بعض الإيجابيات بين الفينة والأخرى: مثلًا المنصة الرقمية التي طوّرها فريق من الباحثين في مركز الاستشعار عن بعد، التابع للمجلس الوطني للبحوث العلمية، لإحصاء الصدامات المرورية بطريقة ممكنة وتحديد أسبابها وعواملها وصولًا لرسم خريطة مكانية وزمانية لهذه الصدامات. بالتالي، تذهب هذه المنصة إلى أبعد من كونها وسيلة إحصائية لتصبح وسيلة تحليلية أساسيّة. تعتمد هذه المنصة على الحصول على المعلومات من المصادر الجماهيرية بالاعتماد على وسائل التواصل الاجتماعي عبر البحث عن المنشورات التي تتحدث عن الموضوع قبل أن تفرزها وتصنف المعلومات المستقاة منها وصولًا لتحليلها وإصدار النتائج. في دراستهم المنشورة أواخر عام 2022، يؤكدون على غلبة السيارة من ناحية عدد الصدامات وضحاياها، كما على تركّز الصدامات خلال عطلة نهاية الأسبوع، أي غالبًا في التنقلات غير الملزمة، مما يظهر مجددًا في التوزّع الجغرافي للصدامات حيث تزداد في القرى ومناطق الاصطياف خلال الصيف، مثلًا بدل بيروت وجبل لبنان بالعادة [12].

من النوادر الواجب ذكرها حول دور الدولة في الحفاظ على السلامة المرورية، ما حصل في ستينيات القرن المنصرم حيث تم فرض قيود على استخدام أبواق السيارات ووضعت خطط لإنشاء مناطق خضراء تقيّد وقوف السيارات لتقليل الازدحام في وسط المدينة التجاري. كما شجّعت الشرطة على تسجيل مخالفات القوانين المرورية ومعاقبة المخالفين من خلال تقديم حوافز مادية. تمّ التركيز أيضًا على معالجة مشكلة المرور من خلال تغييراتٍ في البنية التحتية للمدينة، حيث تمّ تركيب أول إشارة ضوئية في بيروت في تشرين الأول 1961، وتحويل الشوارع ذات الاتجاهين إلى شوارع باتجاه واحد، ووضع سلاسل على الأرصفة لمنع وقوف السيارات. كما قامت الدولة بالتعاون مع المواطنين في حملة توعوية تُعرف بـ “أسبوع المرور”، حيث نظم 292 طالبًا احتجاجًا صامتًا عند دوار شارع فؤاد، للتعبير عن خطورة القيادة وتذكير الجمهور بعدد الضحايا الذين لقوا حتفهم في حوادث السيارات في السنة السابقة. كما تم عرض سيارات محطمة من حوادث مرورية في أحياء بيروت الأكثر ازدحامًا، بهدف توعية السائقين بالمخاطر وتشجيعهم على الالتزام بالقوانين المرورية. من خلال هذه الإجراءات، سعت الدولة حينها إلى تشجيع السلوك المدني الذي يركز على تحسين القيادة والتنقل بالسيارات بمسؤولية [13].

خلاصة: الحاجة لحلّ جذري السلامة المرورية هي أحد أبرز أساسيات نظام نقل مستدام. هذه الدعامة ضعيفة في لبنان وهي تضعف نظام النقل وتحصد الأرواح والخسائر بشكل كبير، ولذا وجب تحسينها. ونظرًا لأن هذه المشكلة بنيوية، يجب أن يكون حلّها بنيويًا. لذا كما تمّ الذكر سابقًا، لا يجب الاكتفاء بتحسين البنى التحتية والطرقية لتحسين السلامة المرورية بل يجب الذهاب إلى أصل المشكلة، إلى نظام النقل بأساسه والعمل على جوهره عبر إخراجه من الاعتماد المفرط على السيارة. للقيام بذلك، المنهجية واضحة وهي نفسها تطبق على أي من العوامل الأخرى (البيئة، المساواة الاجتماعية، التلوث…) بهدف تعزيز استدامة قطاع النقل. تعتمد هذه المنهجية على ثلاث مراحل: التقليل، التحويل، التحسين، وهي تهدف إلى إقامة نظام نقل حديث ومستدام يسعى لتحقيق الحد الأقصى من الأمان من خلال تقليل حوادث الطرق وضمان تلبية احتياجات التنقل بأمان. وهذا ما سأعمل على تفصيله في مبحث آخر. [1]الإصابات الناجمة عن حوادث المرور، منظمة الصحة العالمية، 2022 https://www.who.int/fr/news-room/fact-sheets/detail/road-traffic-injuries [2] Kobeissy, F., & Carnis, L. (2021). The excuse is worse than the fault: It’s time now to improve road safety in Lebanon. Case studies on transport policy, 9(2), 500-510. [3] WHO (2018). Global status report on road safety 2018: Summary. https://www.who.int/publications/i/item/WHO-NMH-NVI-18.20 [4] Choueiri, Elias M., Choueiri, G. M., & Choueiri, B. M. (2010). Analysis of accident patterns in Lebanon. 4th International Symposium on Highway Geometric DesignPolytechnic University of ValenciaTransportation Research Board. [5] El Zein, A. (2020). La crise du système de déplacements au Liban: Une dépendance automobile systémique et coûteuse (Doctoral dissertation, Perpignan). [6] Perry, M. (2000). Car Dependency and Culture in Beirut : Effects of an American transport paradigm. Third World Planning Review, 22(4), 395. [7] Stephan, J., & El Sayyed, L. (2015). Mobility cost: A Case Study for Lebanon. Ministry of Environment, Beirut. [8] Omran, M., Ojeil, J., & Fawaz, Y. (2015). Economic Impacts of Adopting a Sustainable Transport System in Beirut. Climate Change and Environment in the Arab World. [9] Nahas, C. (2009). Development Program 2006-2009—Transport Sector [Report prepared for the Council for Development and Reconstruction]. Council for Development and Reconstruction. [10] نصف الطرق لا يستوفي شروط السلامة، جريدة الأخبار،2019 https://al-akhbar.com/Community/268481/ [11] Mahmalat, M., & Maktabi, W. (2022). Cartels in Infrastructure Procurement: Evidence from Lebanon. The Policy Initiative. https://api.thepolicyinitiative.org/content/uploads/files//KAS-Cartels-in-Infrastructure-Procurement-Report_USE.pdf [12] Lebanese Observatory for Crashes on Road – https://geogroup.ai/project/locr/ [13] Monroe, K. V. (2017). Circulation, modernity, and urban space in 1960s Beirut. History and Anthropology, 28(2), 188–210. [14] SISSAF. (2016). Technical Assistance of the Support Program for Infrastructure Sector Strategies and Alternative Financing (SISSAF) (Comprehensive Sector Policy and Strategy for the Lebanese Land Transport Sector ENPI 2013/324-159).


5 views0 comments

Comments


bottom of page